للعربية أسرار مقال للدكتور حبيب مونسي
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ
كتبه حبيب مونسي.
===
إن للعربية من الأسرار الدلالية ما يجعلها لغة تتَّسع لكل معنى يُمكن أن يتبادر إلى الذهن، فيبحث له صاحبه عن “مفردة” تؤدِّيه أحسن تأدية. وأنت إذا نظرت إلى كلمة “مفردة” ستجد فيها حقيقة لم تكن لتنتبه إليها من قبل، لولا تقليب النَّظر في حقيقة الكلمات. إنَّها “مفردة” أي “واحدة” لا ثانية لها تشبهها أو تقترب منها في دلالتها، إنَّها مُتفرِّدة، لأنها في هذا المعنى تعطيك من الدلالة ما هو كاف شاف، أو ما هو جامع مانع كما يقول أهل اللغة. لذلك حينما نقرأ قوله تعالى: ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ( 26 آل عمران ) تستوقفنا أربع كلمات، في تواليها في الآية الكريم، وكأنها في عددها ذاك، تريد أن تجعل المعاني متقابلة في نسق هندسي لا تخطئه العين، ويستطيع التَّدُبر أن يرفع منه من المعاني ما يجعل السِّياق العام للآية الكريمة منفتحا على دلالات مستجدة، تمكِّن اللغةُ متَدبِّريها أن ينالوها بيسر إن هم أمعنوا النظر فيها وتدبَّروا. فقد جعل الله الملك بين أن يُؤتى وأن يُنزع، وجعل الحاصل من ذلك أن يكون: تُعزُّ وأن يكون تُذلُّ. فيكون مع الإتيان عزٌّ، ويكون مع النَّزع إذلالٌ. ونظن أننا قد أحطنا بالمعاني كلِّها في هذا التصنيف! بيد أن الأمر غير ذلك. فاللغة تقول في “تأتى”: تَأَتَّى لَهُ الأَمْرُ : تَهَيَّأَ لَهُ، وَصَارَ سَهْلاً . وأنَّه أعطاه، وساقه إليه. والله حينما يُؤتي الملك من يشاء من عباده، يهيِّئه له، فيصير سهلا مستطاعا، وكأنه أُعْطِيةٌ أُعطيت له. وفي واقع الناس، وما يعرضه التاريخ من أمثلة إيضاح لهذا الأمر حينما سخَّر الله الأسباب لبعضهم فنالوا ما لم يكن في حسبانهم أبدا. كما جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة، حينما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعوله الصخرة فأضاءت له قصور كسرى، فبشر المسلمين وهو يحفرون الخندق خائفين من اجتماع أهل الكفر عليهم حول المدينة. وتقول اللغة في “نزع” نزَع الشّيءَ من مكانه: قلعه، وجذبه، وحوّله عن موضعه، أزاله وسلَبَه إيّاه. ونزَع المريضُ: أشرف على الموت. فإذا كان التّأتي يأتي هونا وكأنه أُعطيةٌ، فإن النّزع شديد مؤلم، لأنَّ فيه اقتلاعا بشدة، وخلعا بعنف، وجذبا بقوة، وتحويلا وصرفا. وهو فيه من نزع الموت واقتلاع الروح من أطراف الجسد المنهك المريض. لذلك قابله “الذلُّ” في الموقف مقابلة حتمية. فكان من معاني الذلِّ: الضُّعف والهوان، وذهاب القوة والعزة، والمكانة والشرف. ولا يكون ذلك إلا عن قهر، وخضوع، وصغار. فمن ضعُف وهان عن قهرٍ صغُرت نفسه. فمن ذلَّ عَلَتْ وجهه كآبة وسواد. ولا يلبس الإنسانُ العزَّ كما تقول اللغة إلا إذا “برئ” من الذلِّ وصار عزيزا ممنوعا.