أجسادنا …ذاك المعنى المهمش بقلم الاستاذ غزال مراد
****
“أجسادنا …ذاك المعنى المهمش.”
اشتد بي المرض الأسبوع الفارط حتى كدت أن أشل من فرط الإنهاك والتعصب ومقارعة مفرداتي اليومية بكياني كله.
و بلحظة فارقة قررت أن أهدأ من ذاتي وأبتعد قليلا عن يومياتي المتسارعة والمتلهفة لشيء ما أصبو إليه بعنفوان مفرط جدا لا ادري كنه بعد وكذا إمتثالا لأمر الطبيب.
وعند تلك اللحظة وأنا أكلم روحي المنهكة ترآى لي جسدي الذي نهشه المرض ،فتوقفت أمام ذاك الكيان المرسوم بإحكام وتلك الماكينة التي تحملني ولا آابه لها كل صباح وأنا أستقبل الحياة.
أتراه ذاك الكيان المجسد والذي يقال أنه يحمل ملامحي الشخصية ومقاس حذائي ويوصلني إلى الأمكنة التي رسم مخيالي الوصول إليها قبل ممارسة فعل الوصول هو أنا ؟
وما كينونة ذاك الجسد ؟ …
تباين مفهوم الجسد عبر الزمن بتعاقب الحضارات والفهوم وتطرقت له الفلسفة بإسهاب .فنجد أن أول تعاطيٍ فعلي مع أجسادنا هو الخلق الذي نفخ فيه الخالق من روحه وتلك الصنعة الربانية التي وصفها صانعها أنها بأحسن تكوين ،ذات الطبيعة اللازبة والتي أثارت تجسيدا آخر مصنوع من نار و بدأ صراع الخيرية من تصور الآخر لأجسادنا .
ثم ما فتئ ذاك الجسد يتجلى أمام أبونا آدم ويرى سوءاته (عورته ) فيسترها ليتحول من جسد يلائم البرزخية لجسد آخر يلبس خطيئته ليلائم حياة الدنيا .ولنخلص من هذا أننا كلما بانت عوراتنا جسدية كانت أو فكرية كان لزاما أن نشرع في بناء جسد آخر يلائم ذاك الحيز الجديد ويعتبر تغطية وموارات لجسد لم نصبح أهله وساكنيه .
وقد تعاقبت الحضارات على فهم ذاك الجسد فقدسته بعضها ومجدته وأحتفت به وجعلته رمزا للخصوبة وتارة للقوة وهناك من ابتذلته وجعلته رمزا للرذيلة والدنس .
فرسومات الايروتيكا اليونانية مثلا تحمل أبعادا شتى للقاء الجسد ومفاهيم الحب ،الشر ، الخير وحتى الخطيئة.
فنجد أفلاطون مثلا صاحب نظرية المُثل على لسان أستاذه سقراط يرى وجوب إحتقار ذاك الكيان المسمى جسدا ويرى أنه سجن وثقل على الإنسان ويبعث به إلى مصاف الحقارة فيرى أنه يحرم الروح من تحليقها السماوي وبحثها الحثيث عن الحقيقة .فعندما حكم على سقراط بالموت ولم تُرى عليه علامات الخوف مما أثار تساؤل تلامذته فأجاب “إن الموت بالأصل إنفصال النفس على الجسد ،ويرى أن الفيلسوف الحقيقي لا يرى أبدا مكمن اللذات والغرائز ويتماهى كليا مع النفس التي تسكنه ” فيرى أن الجسد هو السوء الذي يجب التخلص منه .
أما أرسطو فلم يقم بدانسة الجسم وطهارة الروح بل أوجد إتصالا أساسيا بينهما .فرأى أن النفس هي صورة الموجود والجسد مادته فقط .
ولكن ديكارت رأى أن الجسد يخضع لسلطة العقل المطلقة والمنظمة لإنفعالاته وشهوانيته .وأن من يشكل ماهيتنا هي أفكارنا لا أجسادنا وحشر مفهوم الجسد بأنه محض مكب للمكبوتات المتوارية التي يجب التحكم فيها من خلال ما يعرف بالثنائية الديكارتية والتي تمايز بين العقل والجسد الذي يعتبره آلة تفتقد لقرارات نفسها .
أما الفيلسوف الألماني نيتشه فقد تطرف في تعاطيه لمفهوم الجسد ورأى أنه “عنوان إنخراطنا بالحياة “وأنه ليس ذاك الكيان الوديع فمجده وجعله عنوانا للقوة وشدد على تحريره وتلبية كل رغباته الطبيعية.ونفي مفهوم تسامي الروح ويصف الجسم أنه عقل عظيم وما العقل إلا أداة صغيرة للجسد ، وأعتبره الوجود الظاهر للأنا الباطن المتخفي .
ولكن فرويد كان رحيما بمفهوم الجسد وقال “إن الجسد هو لسان حال المرء عندما تضيق اللغة ” ونجد ذلك في تقضب ملامحنا ونحن نمارس إنفعالاتنا الطبيعية .أوكالرقص والقفز والحضن وغيرها من الحركات التي تكون ترجمان عميقا لمشاعر لم نقلها .
أما المتأخرين فقد هالني مفهوم العالم الفرنسي ميشيل فوكو والذي مكنني البحث عن مفهوم الجسد من التعرف على هذا الفيلسوف الرائع .فنجد أن فوكو تعاطى مع هذا المفهوم بعمق شديد وفكك بعناية ثنائية (الجسد /الروح )وأكد على إستحالة فصلهما. و رأى أنهما زوجان متصلان وأن الجسد حاظر دوما في الفكر .وبين أن الجسد عبارة عن منتج إجتماعي لنظم سياسية ومعرفية تعمل على تنميطه وتطويعه .
أما بالإقتراب لثقافتنا الإسلامية فنجد اللفظ القرآني فصل بين مفردة (جسد /جسم/بدن)
فنجد أن مفردة جسد ذكرت أربع مرات ؛مرتين في وصف العِجل الذي إتخذه قوم سيدنا موسى جسدا ليعبدوه .ومرة في وصف ابن سيدنا سليمان الذي ولد ميتا ومشوها .وفي المرة الرابعة في بيان أن الأنبياء كانوا رجالا أحياء لا أجسادا هامدة في قوله تعالى “وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل العلم إن كنتم لا تعلمون *وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ” الأنبياء 7 و 8 .
وبهذا فالجسد في القرآن الكريم ذكر للجماد الذي لا روح فيه .
بينما مفردة “جسم ” فقد ذكرت مرتين .مرة لتبين قوة طالوت بقوله تعالى “إن الله إصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ” البقرة 247.
والثانية في إهتمام المنافقين بأجسامهم في قوله تعالى “وإذ رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة ” المنافقون 4 .
وبهذا فالجسم في القرآن يطلق على البدن الذي فيه روح وحركة .
أما البدن فهو الجسم بلا رأس ومنه اشتقت كلمة “ذاك الرجل بدين ” مثلا .
ولكن هذا المعنى عندما نسوح بالمفردات القرآنية الصريحة ولكن نرى بالعديد من الآيات إشارة لمعنى الجسد على أنه شهواني معرض للوقوع في الرذيلة في أي لحظة يغيب فيها العقل ،وعلى وجوب ستر مواطن السواءة فيه .وتعامل النص القرآني مع جسد المرأة معاملة خاصة وبين أنه منبت للزينة وإستدراج الغريزة الذكورية وفتنة وجب سترها .ومنحنا كامل الحرية في التعاطي معه في أطره الشرعية .أي أطر مفهوم الجسد بمواطئ معينة مربوطة بمواثيق غليظة كالدم أو الزواج وغيرها .
وكذا حث على العناية به وأكد أن نظافته من الدنس هو تطهير للروح التي نقابل بها المقدس من الدين ومن دون طهارته تدنس طهارتها .
ونجد كذالك أن هذا الجسد سيكلم المولى بدون سلطتنا يوم تشهد علينا أيدينا وألسنتنا يوم البعث و يفشي خطيئتنا أمامنا .وكأنه يعيد تشكيل ذاته الأولى المتسامية قبل أن تبدى سوءة أبونا آدم ويعاقب ذاك الجسد بالنزول معنا للحياة الدنيا وتجسيده بما يليق بشقائها .
أما بمجتمعنا فنرى الجسد هو أول باب نقابل به العامة ونتبرج به لنمنح أنفسنا مكانة مجتمعية .فنجد الصالات الكبرى والرياضات ومراكز التجميل وغيرها أنشأت لأجله .ونجد تلك الآلة المجسدة فينا كل يوم تبهر المشتغلين بالطب والكيمياء وشتى العلوم .
وفي الأخير بعدما قضيت أسبوعا وأنا أكلم جسدي المنهك ذاك و قرأت رسالة دكتورا والعديد من المواقع الفلسفية المنشغلة بمفهومه وقلبت بعض الكتب أما آن أن نقول كما قال العالم الإسلامي فريد الزاهي “أنه يجب تحرير الجسد من موقعه على هامش الوجود ونقله إلى قلب الفكر، لنقول أن للجسد فكرا ”
ونستيقظ صباحا لنقول “صباح الخير يا جسدي “.
****