الباب القديم … منبرٌ يتناول الذات الحزينة …. الناقد عبدالباري المالكي
دراسة نقدية لقصيدة ( الباب القديم) للشاعر علي حميد الحمداني .
لم يكن بمقدورنا أن نعيَ يوماً أنّ للحسرة صوتاً هو من أشد الأصوات لذعاً عند النفوس الحائرة ، ولم نكن لنفهمَ أبداً كيف للجرح أن يكون أبلغَ الأقلام وأجرأها في تصويرِ عذاباتِ النفس وفناء العمر عاماً بعد عام ، حتى جاء شاعرنا الحمداني وقد جلّى لنا هذه الحقيقة بأوضحَ من شمسٍ في نهار .
فالباب القديم … هو ليس محضَ خشبةٍ عند الحمداني تأرضها دودة الأرض يوماً ، وتحذفها الريح يوماً آخر ، بل هو أثرٌ عميق ترك في نفسه حسرةً عن ماضٍ ، وقلقاً في حاضر ، وذعراً من مستقبل ، وهو يرى من بين فجواتِ ذلك الباب الخشبي مظالم الأفول مع ما في نفسه الحانية من تطلّع ٍ الى نورٍ هادٍ ، وألسنةِ لهبٍ ارتفعت شوقاً نحو أملٍ محروم .
والباب القديم لدى الحمداني هو ذلك المنبر الذي تناول ذاته ُ لينشئ منها قبساً يدور حوله مدار القطب من الرحى .
وهو باب الخلاص الذي يجده أكثر إشفاقاً منه على نفسه يحكم له بالبيّنة والقرينة ، ولاتجدي معه الأقاويل والشائعات التي تنذر لشاعرنا بالقلق المريب ، وهو الوحيد الذي يقطع الأفكار التي لاتكفّ عن اللغط الذي يعكّر صفوَ حياته وعمله .
والباب القديم عند شاعرنا … معاذير انتحلها لنفسه وتوسلات متكررة كي لا تتزعزع ثقته بنفسه ، ولا تتداخله هواجسه من بين نوافذه مابين همسٍ ولمزٍ ، تلك الهواجس التي حطمت كبرياءه ووشت ْ لون روحه النقية الى لونٍ رماديّ .
وفي الباب القديم … لا خيار .
فالحمداني بين زمانينِ ، فُرِضا عليه شاء أم أبى ، وحين يزعم شاعرنا أنه قادر على الوقوف من هذا الصراع الزمني موقف الحياد ، فإن الحقيقة التي تنطوي عليها خشبات بابهِ القديم أنْ لا حياد ، وأن الصراع المتمثل ما بين أمسهِ ويومهِ مجرد صراع بائسٍ ، وما شاعرنا إلّا جزء من كلٍّ لهذين الزمنين ، يتمازج فيهما ويتفاعل معهما ، فلا مظهر له مستقلاً عنهما ، ولاميدان له يسابق الموت فيهما الّا كما يسابق الناعور مجرى النهر ، وقد أوشك الليل ان ينتصف ، فلا يطيب له في اوقات خلواته إلّا أن يحملَه جناح الزمن الى ماضيه ، ويفتحَ له كوّة ً في نفسه يطلّ منها الى عالمه اليائس ، يتجلبب ثوب الآهة تلو الأخرى ، و قد أضناه الطواف حول أنينه ، فبات يتساءل عن أيّ جوٍّ نفسيّ تملي عليه فصول أعوامه وهو يرى زهرة ذلك العمر تترنح تحت ريح الأسى العاصفة به.
والباب القديم … هو الصورة الوصفية للإطار النفسي الذي يعيشه الحمداني وإن حاول إخفاءها مدة من الزمن ، فهو في الوقت الذي يكون فيه فزَعاً من غربةٍ ، يكون فيه أملاً في بعيدٍ قد آب .
وهو بين ذينِ ، رجلٌ آدميٌّ شَقيَ كل الشقاء .
فهو في الوقت الذي يخشى صرير ذلك الباب في ضلعٍ محطمٍ ، فإنه يراه بوابةً لصدى قلبِه الناطق الذي مضى يبثّ الدهر شكايةً لتلك الديار التي غدت قفاراً ، وقد راح يرجو بابه القديم ألّا يطرده من جنّتهِ الساحرة بصوتٍ طغى أساه على رجاه .
وخلف ذلكم الباب القديم ثمّةَ أجواء شاعرية ألهمَت شاعرنا وألْهبَته ُ ، إذ لاذت روحه بكل جانب من جوانب ذلك الباب ، فقد استسقاه مطراً ظهر له فيما بعد أنه غيث زائف ، فشكاه الى دنياه ، وفرّ منه الى طلولٍ خالَها جنةَ عدنٍ ، وتمرّد على خيبتهِ جهلاً منه بفَضلةِ كأسِه ، وغدا ناعوراً دامعاً بصمتٍ ، ظناً منه أنه سيّابُ جيكوره ، ونذرَ نفسه لأنينِه رغبةً في أن يزهده حزنه يوماً ما ، ومضى في جادة ذكرياته يجلوها بنواعس الأجفان طلباً في إطفاء جمرتهِ ، وهو بين تَينِ وذَينِ يطارد سراباً تراءت له منه واحة ُ غديرٍ وأعنابٍ .
كل ذلك التوزيع الفني كان له الكلمة الفصل عند بابه القديم ، وكأنها رقصةُ حالمٍ أو خمرةُ عاشقٍ يضطرم فيها نداؤه الأبديّ .
والحمداني لايفضّل الألغازَ والأحاجيَ حين يُجري حواراً بينه وبين بابهِ القديم ، وهو أشبه ُ مايكون الى تضرعٍ واسترحامٍ ، لأن ذلك الحوار صحوةُ قلبٍ مكلومٍ ، وتشبث ٌ برجاءٍ موهومٍ ، حتى إذا تكسرت كل أسلحتهِ بين يديه صحا على وخزِ الجراحِ ومرارة الغياب ، وراح ينأى بنفسهِ في البحث عن عقارٍ يتجرّعه يفضي به بعيداً عن الآلام والأوجاع ، حتى لو استلزم الأمر ُ أن يُخدّرَ إحساسَه ويخدعَ رؤيتَه بصبابةِ خمرٍ أملاً في أن يذهلَ عن حقيقتِه ، ويغفلَ عن وجودِه .
وثَمّةَ أمر آخر لم يعرض البابُ القديم عن الاطناب فيه ، فهناك خلف ألواحهِ المتهرئةِ تكمن شواهد ُ متعددة لأرضٍ خلَت من أي سميرٍ ، ولِسكونٍ مملٍّ ضَلّت فيه كل أمانيهِ الخاوية بين متاهاتِ ذلك الفراغ المقيت .
إنّ الحمداني يعيش حالة نفسيةً من الصراع الداخلي يتأرجح بين الامتعاض الذي يخلُفُ الرضا ، وبين التمرّد الذي يعقُبُ الانقياد ، وقد استيقظ من سبات نومهِ الذي تعرضَ فيه لخوادع الأحلام وزيف الآمال .
والحمداني … رغم هذا وذاك ، فإنه لايسأم أبداً من أن يطرق بابه القديم كل مرة ليدفع عن نفسه طارقَ الأشباحِ التي نتجت ْ عن حبٍ قديمٍ ، وطيفٍ عابرٍ.
إنها بلا شكٍّ وفود الذكريات التي أقبلت ْ تطرق بابَه دون سابقِ إنذار ، وقد أقفرَ الروض واصفرّ الجناب وجفّ النبع ، وهو يستعطفها أن تتركه وقد نامت بين أحضان الخريف لياليهِ ، ونأت عن الربيع أحلامه ، يستمهلها فَينةً من الزمن ليتفحص مرآتَهُ ما بها من ظنون .
وعند عتبة بابه القديم تمثلُ ذكرياته التي هي كل ثماره وقد تهدلت بها أعواد سنيّهِ ، إذ لم يكن مقدَّراً له ان يملأ صدره بحسنها حتى تجيش عروقه كمنظر الكمائم وهي تتفتح عن أوراق الزهر وعبقِ الريحانِ ، دون أن تلقي به يد القدر العابثة في ركنٍ خرِبٍ وموجٍ لايكاد يُقبِلُ حتى يدبر ، ولم يكن مقدّراً له أن يرسم شموسه في صفحة سمائه بأبهى صورها ، تخطو ريشته خطواتها الألف بحرارة الاندفاع وشعلة الأمل .
وليس سراً أبداً إن أخبرَنا الحمداني أنه يخشى الغياب الأبديّ ، فالجميع يخشاه دون استثناء ، والكل ينتظر دوره في دولاب الموت ، وكأنّ سرباً من العذارى تزاحمنَ على ورود ماء مدينَ بأثوابهن البيضاء ، غيرَ أن شاعرنا يتساءل كثيراً وبجديةٍ عن مدى صحة الخبر القائل أن للحزن نهايةً ينتهي بها بعد أن أشقاه وأتعبه ، وصار لاينقذه شيء مما هو فيه من صنوف الإحباط والهزيمة ، وقد رأى بأمّ عينيهِ كيف أن الأكفّ أهالت عليه طبقات التراب فألقيَ بين أنقاض حياتهِ ميتاً ، تلطمه ُ الريح وتدحرجه ُ في أغوار البحر ، وترميه في طيّ غياهبها ، وهو أخرس لا يكاد يبين .
لقد قضى الحمداني شطراً من عمره وهو يظن أنه ملهبُ الموجِ بسياطهِ ، وهو ممّن يبعث في الأرض اخضرارَها ، شجرةً شجرة ، وغصناً غصناً ، حتى اذا دلَف قاصداً بابَه القديم ، وراح يمشي نحوه جيئةً وذهاباً ، عانقَ الأسى ، وبدا له صرحه ُ الموحش ، وظهرت له الأسبابُ التي تجعل في أعتابهِ وداعاً لا مناص َ له منه .
قصيدة (الباب القديم )
أفـنـيـتَ عُـمـرَكَ حَـسـرةً و عَـذابـا
صــنـتَ الــوفـاءَ وخـلـتَـهُمْ أحبابا
.
فـمـتى تـصـدّقُ أنَّ مَـن تـحنو لـهمْ
لـن يـسـمـعوكَ وأصـبـحوا أغـرابـا
.
سـتـعـودُ لـلـبـابِ الـقـديـمِ تــدُّقُـهُ
أمــلاً تـــنــادي أهـــلَــهُ الــغِـيّـابـا
.
وكـأنّـهُ بــابُ الـخَـلاصِ ولــمْ يـكنْ
جــرحــاً بـلـيـغـاً شَـــرَّخَ الأصــلابـا
.
لــو حَـرَّكَـتْهُ الـريـحُ جـئتَ مـهرولاً
ظَـــنّــاً بـــــأنَّ بَــعـيـدَهُ قــــد آبــــا
.
وتدورُ مِـنْ حولِ الـنوافذِ تـرتجي
قَبَـسـاً هــنـاكَ وهَـمـسـةً وجــوابـا
.
وهَــزَزْتَــهـا رِفـقــاً إلـيــكَ كـأنّـهـا
ضلـعٌ يمـيـسُ مُـحَـطَّـماً ومُـصـابا
.
وتـصـيحُ بـالأسـماءِ عـلَّ بـذِكْـرِها
أحــداً يَــمــدُّ بــصـوتِـهِ الـتـرحـابا
.
تـجري الى الأوهـامِ وهـي عـنيدةٌ
تـسـقـيـكَ غــيثـاً زائِــفــاً كَــذّابــا
.
تلـكَ الـديـارُ غـدتْ قِـفـاراً بـعـدَما
كـانـت جِــنـانـاً تُــسـحِـرُ الألـبـابـا
.
وقَفَـتْ عـليـكَ طـلـولُـها و كـأنّـها
صَـرحْ ، يُـعـانـقُهُ الأســى أحـقـابا
.
لا اليأسُ يكفي كـي تـعودَ مُـوَدِّعاً
وتـفــارقَ الـــجــدرانَ والأعــتـابـا
.
لا المـوتُ يـسقيكَ الـشَفاءَ بـكأسِهِ
لـتـغيبَ في إِثْــرِ الــذي قــد غـابا
.
مذْ دَسَّ كفُّكَ في الترابِ شُموسَهُمْ
أطـنـبتَ فـي هــذا الأسـى إطـنابا
.
وغـدَوتَ كـالـناعورِ يبـكي صـامتاً
والـدمـعُ يسـقـي حــولَـهُ الأعـنـابا
.
كم من فـقيدٍ فـي الـثرى أودَعـتَهُ
وغــدوتَ فـي جـيـكورهِ الـسَـيّابا
.
ونـــذًرتَ عـمـرَكَ لـلـدموعِ تـصُـبُّها
صَـــبّــاً عــلـيـهِ وزدتَــهــا إســهـابـا
.
قـلْ ليْ أهـذا الـحزنُ يوماً يـنتهي
وتُـــبَـــدِّلُ الآهــــاتِ والأثـــوابـــا
.
وتَـحـيدُ عــن دربِ الأنـيـنِ مُـفارِقاً
زمَــنــاً قـضـيـتَ فـصـولَـهُ مُـرتـابـا
.
بـل كـيفَ تُـطفئُ نـارَها لـو أرسَلَتْ
فــــي ذُكــريــاتٍ جَـمـرَهـا اللهابـــا
.
يا سـيـدَ الـحزنِ الـكـبيرِ قَـضَـيْتَهُ
عـمراً تــطــاردُ كِــذبَــةً وســرابــا
…