إشراقات أدبيةقراءات نقدية

السرد في مواجهةِ الفكر الكولونيالي/بقلم الناقد الأدبي محمد مجيد حسين

السرد في مواجهةِ الفكر الكولونيالي

غروبٌ في غربتي متأصلٌ مثل الوتد الأثري

الغربة، والغروب، والاغتراب.

دراسة إبستمولوجية في عالم الإيقونة أمّ الزين بن شيخة المسكيني وتحديداً عبر روايتها “صياد الغروب” كمساحة للعبور إلى مكامن القلق الوجودي الناتج عن الخوف من الغروب وتأثيره على بؤر السكينة في جوهر ذواتنا.

للغروب فلسفته:

يبدأ الغروب في نهاية النهار أي عند غياب الشمس عندما تزحف العتمة رويداً رويداً على امتداد الأفق حتى يتسيد الظلام.

وثمة غروب يتمثل في نهاية الأسبوع وكذلك في نهاية الشهر، وثمة غروب يتعلق بفصول السنة حيث يرحل فصل ويأتي آخر، وهكذا أيضاً بالنسبة للأعوام فغروب عام هو بمثابة ميلاد عام على مشارف الوصول.

وثمة شروق وغروب متقاربان كالفرحة بالميلاد أو الزواج أو النجاح في السياق العام للحياة، هذا على المستوى الفردي.

وعلى الصعيد العام يمكن أن يبدأ الشروق في الأعياد الدينية أو الوطنية، أو أي مظهر للبهجة، قد يتعلق الأمر بالأقارب أو الأصدقاء، هنا قد تكون عملية الشروق والغروب ليست بتلك اللمعة.

وثمة غروب يتمثل بغروب الطفولة ومن ثم غروب فصول العمر تباعاً.

الغروب والجندرة:

بالنسبة للرجل يخشى الذكر من أفول قوته الجسمانية، فهي منبع كينونته، إضافة إلى ظهور ملامح الشيخوخة على وجهه كالتجاعيد ونقص في فعالية الحواس.

أم الكائن الأنثوي (الأنثى) فالجمال منبع كينونتها، وهي تواظب على الحفاظ عليه بشتى السبل هنا أتحدث عن المرأة صاحبة الشغف بالحياة والتي تملك إرادة عميقة تمنحها القدرة للتصدي لعجرفة المجتمع الذكوري.

وكيميائياً الروح تتألم خوفاً من أجواء الغروب المجهولة، وقد تنحسر أحياناً وتخوض حروباً دون دراية، فمركزية القوة في العالم تقف خلف عمق التوتر والقلق الوجودي وضبابية القادم ..

الكيمياء العضوية ونسبية الفيزياء تلتقيان في آخر مدار بوصلة الرؤى، وكأننا مقبلون على العبور من اللاعودة، وقد نتشبث بماهية السقوط الحر تحت سطوة الكرباج البعيد في جملة من المعادلات ذات التضاد الشاهق أعلى الغروب.

لماذا نكتب مذكراتنا؟ الإجابة:

“كتابة المذكرات وسيلةٌ لتفادي الجنون” الروائي الكولومبي: إيكتور آباد فاسيولينسي.

فالشائع في الأوساط الأدبية وتحديداً منذ الربع الأخير من القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة هو شغف معظم الكتاب صوب كتابة مذكراتهم أو كتابة روايات معظمها يستند على سيرهم الذاتية، وهذه الحالة راسخة في معظم الأجناس الأدبية القصة القصيرة والمسرح وحتى النص الشعري..

“النظرية التقليدية للغة هي أنها كائن حي وأن الكتابة هي الجزء الميت من هذا الكائن” جاك دريدا

“المستقبل هو السرد.. وحدها الحكايات تبقى…أكثروا من القصص..قبل أن يقتنصكم الغروب…كلنا نترجل نحو غروبنا الخاص. كل واحد فينا صياد غروب ” أمّ الزين بن شيخة

اللغة قد تكون بعضاً من أنفاس الغائبين، وقد تكون اللغة انبهارا أنثوياً بمحاذاة أزمة العقل وانبثاق الربيع في كهوف الأرواح المتشبثة بما هو غائب.

هنا تؤكد لنا الروائية أن القادم قد يستوعب السرد بصفته حافظ دقيق لمجريات أحداث تجري هنا وهنالك، السرد قد يفتح لنا مناخات دافئة في المستقبل “فريدة في كل مرة نهاية العالم” جاك دريدا

في كل الأزمنة للموت سر يأتينا من عدة زوايا وبأشكال مختلفة، هنا ثمة غروبان الأول في آخر الأفق، والآخر في أفق إرادتنا ومفهومنا للحياة وماهية البصيرة حتى نهاية الصدى قبل اندثار الصوت هنالك أعلى الذبذبات وفي آخر مهرجانات مونولوجات الأرواح في صمتها النازف.

الله هو الوعد بالحقوق في زحمة الهزائم بالرغم من دنونا من عجرفة المقصلة.

الكوارث تغيب، يغيب معها حنان الحديقة وطهارة الآلهة.

فماهية الأضداد تحثنا للوصول إلى بواطن مؤثرات الغربة والاغتراب وربطهما بأفق الغروب في الفضاء السردي عبر انزياحات تنحدر صوب عمق قد يفضي بنا نحو الانزلاق السلوكي المؤطر والمبهم في مناخ من الفردانية الشاهقة، كل هذه الإسقاطات تأتينا من المخيلة السردية للإيقونة أم الزين بنشيخة عبر روايتها الموسومة “صياد الغروب” وتحديداً من خلال عتبة الرواية.

في ظل سيادة نظام التفاهة وفقاً للفيلسوف الكندي المعاصر آلان دونو، هنا يمكننا اعتبار المساحة ما بين الناسوت واللاهوت مشاعا مما يحيلنا نحو تغيير مفاهيمي كاتخاذ الغربة وطناً والاغتراب هروباً ثورياً، والتركيز على تصور مناخ الغروب بدقة رفيعة عبر تجديد ماهية البوصلات المنبثقة من اللاجدوى والباحثة عن معانٍ حرة لأزمة العقل، وفتح أقفال النظريات العبثية والبناء على رمادها، أي ابتكار مسارات مغايرة نحو خلق طقوس الفرح، ثمة غرائبية لا يمكن تأطيرها في الزمن التأملي، فخبايا النفس عميقة ومتشعبة وحازمة ومتكاسلة في العبور وفي الإنصات “لعنف العالم” فأجواء مملكتي قبل هبوط العتمة وقبل غياب صياد الغروب من أفق الائمة وازدحام شرفات الأصيل بما هو غزير الخوف تحت مقصلة دموع الغائبين.

أم الزين تواظب على اصطياد الشروق قبل أن يداهمها الغروب، وما بين الشروق والغروب قلب صامد وقلوب متخاذلة مع أصحابها وللقلوب فلسفة قد تحيلنا نحو سر فجائية الموت.

في رواية صياد الغروب تنعرج الإيقونة أم الزين نحو بواطن الإدهاش عبر أنسِجة مركبة البنية، وغادقة المكوث، بعيداً عن سطوة الغرغرة على مساحات غامضة من يومياتنا.

اختلاف الروح في السقوط يبدأ من اللاشيء في زحمة الأشياء غير المأهولة عبر صيرورة الكائن البشري المتخاذل مع الطبيعة.

تبصير الرؤى عبر التخندق في مساحة التأمل في عمق الجندرة، وكأننا نستيقظ من نوم عميق كي ننام هربا من هموم اليقظة.

ثمة شريحة وكأن الغروب يتقاعس في المجيء إليهم، هؤلاء هم الطغاة على مر تاريخ الكائن البشري، فهم صيادون بارعون للغروب، فهم بالقوة يؤجلون قدوم الغروب..

الغروب ما هو إلا نتاج للغربة على مختلف الصعد، فالمرء الذي يقبع تحت سطوة الغربة يفقدُ شغفه اتجاه الحياة، أي أنه يقترب من الغروب فيفقد عمق الاصطياد في ماهية الغروب.

والاغتراب غربة مركبة ففي سردية الاغتراب تغيب فعالية الطبيعة، فالغربة تعني مغادرة المكان الذي نشأ المرء فيه، والاغتراب هو أحساس فظيع بالوحدة في ذات المكان؛ الغربة أقل قسوة من الاغتراب وماينتج عنها من مساحات متاحة للصيد قبل الغروب.

والكيمياء تبحث عن أقصى درجات المتعة ولكنها تصطدم بالكثير من الحواجز، وبعضها تُبدي شراسة في الذود عن كيانها، فهذا العالم مكتظ بالأسرار التي تؤثر بشكل غير مباشر على الحالة النفسية للكائن البشري ومن زوايا مختلفة وبنسب متفاوتة وفقاً لمستوى الوعي والفئة العمرية وسلطة الخطاب السائد.

يمكننا هنا طرح معادلة قائمة على تشبيه شخصيتنا بذرات الكربون التي تضم الكثير من الفراغات التي تمنح المؤثرات المزيد من الفضاءات التي قد تمنحها تعميق بصماتها على ذواتنا، أي أن كياننا في عمقه يشبه تركيب ذرات الكربون وثمة شريحة محدودة العدد تكون مثل تركيبة الألماس والتي تكون متماسكة ولا تمنح المؤثرات المساحات الواسعة التي من شأنها خلق أجواء من القلق وهو وجودي يتم تحريضه عبر هيمنة منظومة الفكر الكولونيالي؛ هنا نعود إلى رواية صياد الغروب التي تستنبط في جوفها بؤراً من السكينة لمواجهة الثالوث: الغربة، الاغتراب، الغروب.. عبر تكثيف السرديات التي من شأنها خلق استعداد نفسي، وتخفيف سطوة القلق على يومياتنا.

وبالعودة إلى السرد في مواجهة الفكر الكولونيالي رواية صياد الغروب لأم الزين بن شيخة المسكيني حيث آليات السرد تأخذ طابعاً من الفردانية على عدة مستويات:

أولاً : على الصعيد الفلسفي فمعظم التراكيب ذات عبق فلسفي، هنا تتشعب الدلالة وفقاً لرؤى المتلقي

ثانياً: في الرواق اللغوي ترسل لنا الروائية نموذجاً مختلفاً من النقاء اللغوي.

ثالثاً: البعد السيكولوجي النابع من إيقاع صدى القراءة في ذهنية المتلقي الوازن عبر موسيقا مرتكزة على أرضية صلبة من الإرادة الحرة..

عصارة المعاني تتوهج وتنضج عبر التوظيف الجمالي ومهارة إدارة المفردة في سياقات النص الروائي عبر منظومة من المكونات المنبثقة من العمق الحسي والمعرفي وعبر سيميائيات؛ فمعظم السرديات التي تحمل على عاتقها توزيع مفاتيح النص ومن ثم تأطيرها في سردية واحدة، والتي بدورها تضم بين أجنحتها مقاصد السرديات الدافئة في متن هؤلاء الشغوفين للصيد قُبل الغروب.

هنا لنستسغ أبعاد الفكر الكولونيالي الساعي وبمواظبة ذات جذور عميقة للسيطرة علينا، على أفكارنا، خيرات أوطاننا، وحتى قد يبلغ مساعيها مشارف أحلامنا، وقد لا نملك سوى المزيد من الحكايات كما نادت أم الزين بن شيخة في روايتها “صياد الغروب” أي يفترض علينا سرد المزيد من القصص قبل أن نغدو مشاريع على مرمى من غروبنا المحتوم.

صيرورة الحياة على سطح هذا الكوكب قائمة على الشروق والغروب عبر الأزمنة؛ ففي غروبنا ثمة مساحة في مكان ما لشروق أحدهم، الشروق والغروب يناظر شروق الشمس وغروبها في يومياتنا.

بالسرد والمواظبة على السرد، والإيمان بأهمية السرد يمكننا شق دروب دافئة في حصون الدروب الوعرة،

نحن عشاق الحياة حتى لو تطلب الأمر أن نحفر بأظافرنا كي نصل إلى سهول الفرح والطمأنينة، عندها قد نغدو صيادين على دراية عالية بأهمية الصيد قُبيل الغروب كي تنام أم الزين بن شيخة قريرة العين هنالك في بلاد قرطاج.

محمد مجيد حسين- كردي – سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى