اللغة العربية الجزء الثاني عشر الفصل الثاني بعد الاسلام (أسباب التَّغيّر اللُّغويّ)//للكاتبة اللبنانية ملفينا ابومراد
اللغة العربية
الجزء الثاني عشر
الفصل الثاني بعد الاسلام
(أسباب التَّغيّر اللُّغويّ)
إنَّ من أهمِّ جوانب التَّطور اللُّغويّ هو تغيّر المعنى، والمعنى هو علاقة متبادلة بين اللَّفظ والمدلول، ويقع التَّغيّر في المعنى كلَّما وجد تغيّر في هذه العلاقة، ويظهر هذا التَّغيّر في صورتين: الأولى: عندما يضاف مدلول جديد إلى كلمة قديمة، والأخرى: عندما تضاف كلمة جديدة إلى مدلول قديم.
والعوامل الَّتي تؤدِّي إلى هذا التَّغيّر كثيرة ومختلفة؛ فمنها عوامل مقصودة متعمدة، كقيام المجامع اللُّغويّة والهيئات العلميَّة بوضع مصطلحات جديدة، أو إضفاء دلالات جديدة على ألفاظ قديمة لمجاراة التَّطوّر في مجالات الحياة المختلفة، وهذه العوامل تأثيرها محدود في اللُّغات، وهي لا تنال اهتمام الدَّارسين.
أمَّا العوامل الأخرى غير المقصودة الَّتي تتمُّ بلا تعمد أو قصد فهي الَّتي حظيت بالاهتمام والدِّراسة، وقد استطاع الدَّارسون المحدثون من خلال استقراء اللُّغات الإنسانيَّة وتاريخها والأطوار المختلفة الَّتي مرَّت بها أنْ يحددوا عددًا من الأسباب والعوامل الَّتي تؤدِّي إلى تغيّر المعنى في كلِّ اللُّغات الإنسانيَّة؛ لأنَّ لغات البشر على اختلافها تخضع لقوانين عامَّة في التَّغير والتَّطور؛ كالحاجة إلى كلمة جديدة تعبّر عن معنى جديد، والتَّطور الاجتماعي والثَّقافي للمجتمعات الإنسانيَّة، والتَّطور الَّذي يحدث في اللُّغة نفسها من ناحية الصِّيغ والتَّراكيب والأساليب.
إنَّ من أهمِّ العوامل الَّتي تؤدِّي إلى تغيّر المعنى الحاجة إلى كلمة جديدة تعبِّر عن معنى جديد لم يكن معروفًا من قبل، فالمتكلِّمون بلغة من اللُّغات عندما يستجد لديهم معنى جديد لم يكن معروفًا من قبل، يحاولون تعيين دالٍّ لـه من ذخيرتهم اللَّفظيَّة القديمة، وهنا تتغيّر العلاقة بين هذا اللَّفظ ودلالته القديمة؛ لأنَّه أصبح يدلُّ على شيء آخر، قد تكون لـه علاقة بالمعنى القديم، مثل: المشابهة أو المجاورة، أو غير ذلك، وقد لا تكون ثمَّة علاقة بين المعنيين، يقول الدّكتور/ إبراهيم أنيس: “وينحرف النَّاس عادة باللَّفظ من مجالـه المألوف إلى آخر غير مألوف حين تعوزهم الحاجة في التَّعبير، وتتزاحم المعاني في أذهانهم أو التَّجارب في حياتهم، ثمَّ لا يسعفهم ما ادَّخروه من ألفاظ، وما تعلَّموه من كلمات، فهنا قد يلجئون إلى تلك الذَّخيرة اللَّفظيَّة المألوفة، مستعينين بها على التَّعبير عن تجاربهم الجديدة لأدنى ملابسة أو مشابهة أو علاقة بين القديم والجديد”.
ومن أسباب تغيّر المعنى الَّتي تأتي من داخل اللُّغة نفسها: التَّبدل النَّاشئ من كثرة استعمال لفظ في موضع معين وبجوار ألفاظ معينةفكلمة (اتَّقى) تعني في الأصل: وقى نفسه ثمَّ استعملت كلمة (التَّقوى) بمعنى أعمّ من المعنى الأصلي فأصبحت تفيد العمل الصَّالح، وأصبحت كلمات: “التقي والمتقي” تدلُّ على الرَّجل الصَّالح، ذكر ابن منظور (630-711ـ)(1232-1311) أنَّ العرب تقول: “رجل تقي، ويجمع على أتقياء، معناه أنه مُوقٍ نفسه من العذاب والمعاصي بالعمل الصَّالح، وأصلـه من وقيت نفسي أقيها”، ولفظ “الاحتيال” لم يكن يحمل أيَّة دلالة سيّئة، فقد قيل إنَّه مأخوذ من الحركة لأنَّ العرب تقول: “حال الشَّخص يحول إذا تحرك”، ثمَّ أصبح بمعنى: “الحذق وجودة النظر والقدرة على دقَّة التَّصرّف”؛ ولكثرة استعمال هذا اللَّفظ في العبارات الَّتي تتحدَّث عن تحصيل الرَّزق من بيع أو شراءٍ أو عملٍ، فيقال: “احتال لطعامه ولعيشه”؛ ونتيجة لما يصاحب ذلك أحيانًا من غشٍ وغبن، وغير ذلك من الأمور الذَّميمة، حملت هذه اللَّفظة مع تقادم الأيَّام ظلالاً من هذه المعاني، فأصبحت كلمات: “الحيلة والاحتيال والمحتال” تفيد الذَّم القبيح.
ومن الألفاظ الَّتي انحرفت عن دلالتها بسبب مجاورتها لألفاظ معينة واستعمالها في سياق معين من الكلام كلمة (الفشل)، وأصل معناها: “الفزع والجبن والضَّعف”.
واستعملت بهذا المعنى في القرآن الكريم في قولـه تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)؛ قال ابن جرير الطَّبري (ت: 310) في تفسير الآية إنَّ معناها: (فتضعفوا وتجبنوا) . غير أن كثرة استشهاد النَّاس بهذه الآية، في مواطن التَّنازع المؤدِّي إلى الهزيمة والإخفاق، جعلهم يظنون أنَّ معنى الفشل هو الإخفاق والانكسار، فنجدهم يقولون: فلان فشل في الدِّراسة، وفشل في الاختبار، وفشل الرِّياضي في تحقيق رقم جديد؛ كلُّها بمعنى: أخفق، وهو قياس خاطئ.
وقد يرجع تغيّر المعنى إلى أسباب نفسيَّة خالصة، كالبواعث الإبداعيَّة، والمجازات الفنيَّة لغرض الاتِّساع والافتنان في التَّعبير، وهو ما يبرع فيه الأدباء والشعراء وأرباب البلاغة: “ذلك أنَّ الفكرة الَّتي يطالع بها المبدع قارئه، أو الانفعال الَّذي تتكوَّن منه قصيدة، يحتاجان إلى هيئة فنيَّة خاصَّة، تُنْحَت من المادة اللُّغويّة ذاتها، بإيقاعها وموسيقاها وبحيويَّة فاعلة تجعل اللُّغة تتَّسع لتجربة فيها الصُّورة المجازيَّة والاستعاريَّة، وههنا يمسك الباحث الدِّلالي طرف المسألة ليدرس لغة الشَّاعر المجازيَّة وهي أعلى مرتبة لاستخراج قدرات البناء اللُّغويّ، من تغيير المعنى ونقله، أو تحريكه في اتِّجاهات يتَّسع في بعض منها، ويضيق في بعض آخر”.
وقد وجد علماء اللُّغة المعاصرون في المجاز المرسل- وخاصَّة ذا العلاقة الكليَّة والجزئيَّة- وفي الاستعارة نماذج أساسيَّة لتغيّر الدِّلالات وتطورها ونقلها من مجالٍ إلى آخر؛ فالمجاز المرسل ذو العلاقة الكليَّة يؤدِّي إلى تخصيص الدِّلالة وذلك عندما يستعمل لفظ الكلِّ في الجزء، ومنه قولـه تعالى: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم)، والمجاز المرسل ذو العلاقة الجزئيَّة يؤدِّي إلى تعميم الدِّلالة وتوسيعها عندما يستعمل لفظ الجزء في الكلِّ، ومنه قولـه تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ)؛ والمراد العبد المؤمن، فالاستعمال المجازي لكثير من الكلمات: “يعطينا علاقات جديدة، تتجاوز الدِّلالة المباشرة فإنَّ الكلمة تتغيّر قيمتها الدِّلاليَّة عندما تستخدم بصورة مجازيَّة وتتحوَّل من مجال إلى مجال، فتكتسب في موقعها الجديد درجة أعلى من الوضوح لأنَّها تسترعي الانتباه في سياقها الجديد”، كما وجد الباحثون المعاصرون أنَّ التَّشابه بين الأشياء قد يوحي باستعمال مصطلحات جديدة معبّرة، تتضمن فكرة التَّشابه والمماثلة.
تابع
ملفينا توفيق ابومراد
لبنان
2023/6/23