اللغة العربية الجزء الخامس عشر الفصل الثاني بعد الاسلام//للكاتبة اللبنانية ملفينا ابومراد 🇱🇧
اللغة العربية
الجزء الخامس عشر
الفصل الثاني بعد الاسلام
وقد قسَّم علماء اللُّغة الأوائل المجاز المرسل بحسب علاقاته أقسامًا كثيرة، فمنهم من جعلـه تسعة أقسام، ومنهم من جعلـه أربعة عشر قسمًا، وقد ذكر السُّيوطي من أقسام هذا المجاز عشرين قسمًا.
وللمجاز أثر كبير في التَّسمية وإطلاق الألفاظ على مسمَّياتها، يقول ابن قتيبة: “فالعرب تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة، إذا كان المسمَّى بها بسبب من الأخرى، أو مجاوراً لها، أو مشاكلاً، فيقولون للنبات: نوء، لأنَّه يكون عن النّوء عندهم.. ويقولون للمطر: سماء، لأنَّه من السَّماء ينزل؛ فهو يشير إلى المجاز المرسل وبعض علاقاته، ومنها: السَّببيَّة، والمجاورة، والمحليَّة.
ومن مظاهر التَّطوّر الدِّلاليِّ الَّتي تتَّصل بهذا المظهر- أي انتقال الدِّلالة- هو انتقال الدِّلالة من الدِّلالة الحسيَّة إلى الدِّلالة المجرَّدة والعكس؛ أي انتقالها من المجرَّد إلى الحسِّيّ.
1 – الانتقال من الدِّلالة الحسيَّة إلى الدِّلالة المجرّدة:
يكاد يتَّفق الباحثون في نشأة الدِّلالة على أنَّها بدأت بالمحسوسات ثمَّ تطورت إلى الدِّلالات المجرَّدة بحكم تطوَّر العقل الإنسانيّ ورقيه، فكلَّما ارتقى التَّفكير العقلي عند الإنسان جنح إلى استخراج الدِّلالات المجرَّدة وتوليدها والاعتماد عليها في الاستعمال. وهذه الظَّاهرة في نقل الدِّلالة تعدُّ من المجاز أيضًا، ولكنها ليست من ذلك المجاز الفني أو البلاغي الَّذي يستعملـه الأدباء؛ لأنَّ هذا الضَّرب من المجاز لا يثير دهشة أو غرابة في ذهن السَّامع، إذ “ليس المراد منه إثارة العاطفة أو انفعال النَّفس، بل هدفه الأساسي الاستعانة على التَّعبير عن العقليات والمعاني المجرَّدة، فهو لهذا يعدُّ مرحلة تاريخيَّة متميّزة لتطوّر الدِّلالة عند الأمم”.
وانتقال الدِّلالة من المجال المحسوس إلى المجال المجرّد يتمُّ عادة بالتَّدريج، وقد تظلُّ الدِّلالتان سائدتين معًا زمنًا ما، وقد تستعمل الدِّلالة الحسيَّة للفظ فلا تثير دهشة أو غرابة، وقد تستعمل الدِّلالة المعنويَّة، للفظ ذاته فلا يدهش لها أحد. وبعد مجيء الإسلام تحوّلت دلالات ألفاظ كثيرة كانت تحمل معاني محسوسة ثمَّ تطورت لتعبّر عن معان مجرَّدة فمن ذلك كلمات: (غفر، زكا، طبع، نبط، نافق)؛ فكلمة (غفر) أصل معناها السّتر والتَّغطية، وهو معني حسي، ثمَّ تطورت دلالتها في الإسلام إلى معنى الصَّفح والتَّجاوز عن الذُّنوب، وهو أمر معنوي: قال أبو حاتم الرَّازي في معنى (الغفور): “والمغفرة السَّتر، كأنَّه يستر ذنوب العباد إذا رضي عنهم، فلا يكشفها للخلائق؛ وأصلـه من غفرت الشَّيء إذا غطيته”.
وكلمة (زكا) أصل معناها: النُّمو والزِّيادة، ثمَّ استعملت في الإسلام، بمعنى تطهير النَّفس، قال أبو حاتم الرَّازي: “ومن الأسماء ما يجر معنيين، كقولك: الزَّكاة، قالوا: هو من النُّمو والزِّيادة يقال: زكا الزَّرع إذا نما وطال وزاد، ويكون من الطَّهارة، قال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)؛ أي طهرها”.
وكلمة (طبع) قال الرَّاغب الأصفهاني في معناها: “الطَّبع: أنْ تصوّر الشَّيء بصورة ما كطبع السّكة وطبع الدَّراهم، وبه اعتبر الطَّبع والطَّبيعة الَّتي هي السَّجيَّة، فإنَّ ذلك هو نقش النَّفس بصورة ما، إمَّا من حيث الخلقة، وإمَّا من حيث العادة، وهو فيما ينقش به من حيث الخلقة أغلب؛ ولهذا قيل: وتأبى الطِّباع على النَّاقل”، وقال الزَّمخشريُّ: “طَبِعَ السَّيفُ ركبه الصَّدأ الكثير، ومن المجاز طبع الله على قلب الكافر”، وقال ابن منظور: “الطَّبع- بالسُّكون- الختم، وبالتِّحريك: الدَّنس، وأصلـه من الوسخ والدَّنس يغشيان السّيف، ثمَّ (استعير) فيما يشبه ذلك من الأوزار والآثام وغيرهما من المقابح”.
ونلحظ استخدام مصطلح (استعير) مع (يشبه) وهي إشارة إلى أنَّ نقل الدِّلالة في هذا اللَّفظ اعتمد على المشابهة، فكلمة (طبع) كانت تدلُّ على معان حسيَّة كالنَّقش والتَّصوير والصَّدأ، ثمَّ تطوّرت دلالتها فأصبحت تدلُّ على معان مجرَّدة كالخليقة والختم على قلب الكافر.
وكلمة (نبط) كانت تعني استخراج الماء من البئر، وهذا هو المعنى الحسي لها، ثمَّ تطوّرت دلالتها إلى معان مجرّدة مثل استنباط الآراء العلمية، والاجتهاد في المسائل الفقهيَّة، والسُّؤال عن الأحكام الشَّرعيَّة، قال مجاهد في تأويل قولـه تعالى: (لعلمه الَّذين يستنبطونه منهم)؛ هم: (الَّذين يسألون عنه ويتحسسونه)، فكأن السُّؤال وسيلة لاستخراج العلم من العالم، مثلما كان الاستنباط استخراجًا للماء من البئر، قال الزَّمخشريُّ: ومن المجاز “استنبط معنىً حسنًا ورأيًّا صائبًا”.
وكلمة (نافق) مأخوذة من (النَّفق) وهو: “سرب في الأرض مشتقٌّ إلى موضع آخر”؛ هذا هو المعنى المادي للكلمة، وفي الإسلام اشتقَّ منها مصطلح: (النّفاق والمنافق) وهو وصف لمن يضمر الكفر ويظهر الإيمان، قال ابن منظور: “سمّى المنافق منافقاً للنفق وهو السّرب في الأرض، وقيل: إنَّما سمّي منافقاً لأنَّه نافق كاليربوع، وهو دخولـه نافقاءه؛ وهو اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، (وهو الَّذي يستر كفره ويظهر إيمانه) وإن كان أصلـه في اللُّغة معروفاً”.
ومن خلال استقراء هذه الأمثلة وأخرى غيرها، يتبيّن لنا صحَّة ما قالـه علماء الدِّلالة القدامى والمحدثون من أنَّ الدِّلالة تتَّجه في تطوّرها من المجال المحسوس إلى المجال المجرَّد
**
2 – الانتقال من الدِّلالة المجرَّدة إلى الدِّلالة الحسيَّة:
وهذا هو الضَّرب الثَّاني من ضروب انتقال الدِّلالة، وهو الانتقال من المعنى المجرَّد إلى المعنى الحسي، وغالبًا ما يكون ذلك من أجل توضيح الصُّورة الذِّهنيَّة، وجعلها أمرًا محسوسًا يُرَىَ ويُسمَع ويُتذوق ويُلمس ويُشَمُّ، وهذا النَّوع من النَّقل يكثر في لغة الأدب عند المبدعين من الأدباء والشعراء، فنجد المعاني المجرَّدة كالحنان والحقد والصبر والأمل تصبح أشياء محسوسة نكاد نلمسها، فيزداد تأثرنا وانفعالنا بتلك الصُّورة الَّتي يرسمها لنا المبدع. “وأوضح ما تكون تلك العمليَّة فيما يسمَّى بالكنايات الأدبية، كأن يكنى عن (الكرم) بكثرة الرماد، وعن (التذلل) بإراقة ماء الوجه..إلخ. فنقل الدِّلالة المجرَّدة إلى المجال المحسوس ممَّا يمهر فيه الأدباء والشُّعراء وأصحاب الخيال، وهو كثير الورود في الأدب العربي، وهو الَّذي يستحقُّ أنْ يسمَّى بالمجاز البلاغيّ”.
هذه أهمُّ مظاهر التَّطوّر الدِّلاليِّ الَّتي وقف عندها علماء العربيَّة في القديم والحديث، وثمَّة مظاهر أخرى لهذا التَّطوّر وهي تعدُّ أيضًا من ضروب انتقال الدّلالة، وتتعلَّق بعوامل نفسيَّة واجتماعيَّة، من مثل: سمو الدّلالة وانحطاطها، والمحظور، وحسن التَّعبير، والتَّحوّل نحو المعاني المضادة، والمبالغة، وغير ذلك من المظاهر الَّتي أثراها الباحثون المحدثون بالدِّراسة والأمثلة الكثيرة.
ملفينا توفيق ابومراد
لبنان
26/6/2023