بقايا قلب….. للكاتبة أوسان العامري
“نجوم السماء أقرب لكِ من الجامعة”
هزتني تلك العبارة حينما صرخ بها أخي في وجهي
عندما سمع حديثي مع والدتي عن الجامعة..
سمع والدي رد حسام، اقترب مني وربّت على كتفي مبتسماً
“تستطيعين الذهاب إلى الجامعة غدا، أنتِ أهلاً لها وأنا أثق في ذلك”
أثلجت صدري كلماته ومنحتني الثقة والسكينة…
استيقظت في أبكر الصباح أرتب أمنياتي
كان صباحا مفعما بالنشاط والأمل
أول يوم من مزاولتي الدراسة في الجامعة
كل شيء كان غريبا بالنسبة لي..ذهبت برفقة والدتي فأنا غريبة عن المدينة ولا أعرف أحدا فيها
دخلت البوابة انتابني شعور غريب..تذكرت كلام حسام ” أتسمح لها أن تختلط بالشباب”
قلت في نفسي: لاضير مادمت محتشمة…
دخلت القاعة مرتبكة..جلست في المقاعد الخلفية
امتلأت القاعة بالطلاب، جلست بجواري ريم تعرفت عليها وتحدثت معها قبل دخول الأستاذ الذي أرعد وأبرق دون أن أفهم منه شيئا إلا تهديدا ووعيدا…
يوما بعد يوم زادت علاقتي بريم، وصارت قريبة مني..
ريم فتاة بشوشة تتحدث مع الجميع فالكل يكن لها كل الاحترام فقد كانت مطلقة وأما لطفل على الرغم أنها أكبر مني بعامين..
انصت لحديثها ومعاناتها، وأحيانا أشاركها البكاء حينما تبكي شوقا لولدها ابن الخامسة الذي لا تراه إلا في الشهر مرة…رفض أهلها أن يكون معها بعد أن تزوج والده…
أخفف عنها مااستطعت…واشغلها بالمراجعة فقد كانت مهتمة بدراستها…
-ريم أريد دفتر محاضراتك…
ردت ريم: حسناًً، يا طارق ذكرني حينما نغادر القاعة.
بين الفينة والأخرى استرق النظر إليهما وهما يتحدثان فتقع عيني في عينيه فيبتسم…
فاتركهما وأذهب…
انتظرتها وكدت افقد صبري
-هل تأخرت عليك ياسوسن؟
قلت: ليس كثيرا…فالمرة القادمة لن انتظركِِ
تعرفين أنني أشعر بالخوف حينما يحاذيني أحدهم
أو ينظر إلي…أحسدك على شجاعتك ياريم
ضحكت ريم ثم أردفت:
-أنتِ خجولة ياسوسن والجميع يخاف منكِ…
على الرغم من تفوقكِ وتميزكِ…
تحدثي..لم هذا الانطواء والخوف؟
ستمر هذه السنوات سريعة وستبقى الذكريات الجميلة احتفظي بشيء منها….
زمجرت قائلة:
-أنا هكذا…لا أريد أن اتغير…
وأنت ماقصتكِ مع طارق؟
وحديثكما الطويل…
ضحكت ريم ثم ردت:
-تعرفين، ياسوسن أعرف طارق أكثر من نفسي
ابن جيراننا… شاب خلوق ومهذب…. ليت كل الشاب مثله
صار هذه الأيام يحدثني كثيراً…
قاطعتها:
-ريم …وتقولينها بعظمة لسانكِ!؟
ردت ريم بصوت مشحون بالأسى :
-أنا أحببت شخصا صنع في خاصرتي جرحا لا يندمل…ثم استرقت من عينيها الواسعتين دمعتين…
-سوسن طارق يحدثني عنكِ…ألا تلاحظين نظراته و اهتمامه؟!
بحلقت بعيني، وتسارعت نبضات قلبي…
-ريم ماهذا الهراء… أراكِ تهذين بكلام سيغضبني؟
كنت أظن انك مختلفة عن الجميع… ابتعد عنهن لأن حديثهن لا يروق لي واخترتك أنتِ رفيقتي..
ريم أنا جئت هنا للتعلم لست راغبة بأحد…
ثم تركتها وذهبت….
مر يومان دون أن أتحدث معها على الرغم من محاولاتها…
وزاد غيظي حينما رأيت طارق يستوقفها
بعد أسبوع عادت المياه إلى مجاريها فقد اعتذرت لي وصفحت عنها…
مرت السنوات سريعة ومازادت طارق إلا إصرارا
حاولت صده بكل الوسائل دون جدوى…
ريم وهي تبكي :
-سوسن طارق تعرض لحادث مروري..!
صرخت دون أن أشعر..هل مات؟
ردت:
– لا أدري بحالته
لم أنم ليلتها…وبكيت حتى جفت مدامعي…
في الصباح جلست في المقاعد الأولى في المدرج انتظر ريم..
سمعت صوت أحدهم:
– ألا تقولين لي “الحمد لله على السلامة ”
كانت يده اليسرى معلقة إلى عنقه
انتفضت :
– طارق! كيف جئت؟
رد جئت من أجلك فاليوم عيد ميلادك…
انطوت الأعوام ومرت كغمضة عين…وأصبحت ذكريات كما قلتِ يا ريم لكنها مثقلة بالوجع ..تصحبني معها كل ليلة…نتسامر أنا، وهي، والليل والسهد، والقمر، والدموع..
لم أنس تلك اللحظة التي زارنا فيها طارق وهو مبتسم فقد وعد وأوفى بوعده..
عندما أكمل حديثه… رد أبي:
– لا أزوج ابنتي لشخص مازال يبحث عن عمل..عندما تجد الوظيفة، وتملك بيتا يليق بابنتي، وتدفع مهرا يتحدث الناس عنه…. اطرق الباب وقتئذ لكل حادث حديث…
ثم صك حسام الباب بقوة في وجهه…
هاتفني بعدها وهي المرة الأولى بعد تخرجنا ياريم وهو يقول :
– سوسن عديني أن تنتظريني سأغترب وأجمع المال
وحقق كل ماطلبه والدك… وأعود إليكِ..
عديني ألا تخذليني…
كانت كلمتي الوحيدة التي نطقتها وقد اغرورقت عيني بالدموع:
-أعدك…أعدك ياطارق
وها أنا مازلت على الوعد..
لم أعلم أنه ذهب إلى جبهة القتال..
وباع نفسه من أجل أن يحقق ماطلبه والدي
دروع بشرية هم مقابل راتب مغري قد يمكنهم من أن يبنوا حياتهم..وقد يرحلون دون أن يذوقوا طعم الحياة التي أرادوها
انقطعت عني أخباره بعد أن تزوجتي ياريم
ليتني رفضته ليتزوج غيري ويعيش…
قدم روحه قربانا لحبٍ سرق من بين أيدينا…
سقى الثرى بدمه وعانقت روحه عنان السماء
فاضت روحه إلى باريها لتشكو له الظلم والجور…
-أما زلت تذكرينه ياسوسن؟؟
-نعم، أذكره ياريم…
دلفت اليوم إلى منزلكِ…كانت نافذة غرفته مفتوحة اعتدت أن أراه خلفها في كل مرة كنت أزورك فيها ياريم…
خيل لي أنه قابع هناك ينظر إلي مبتسما
تجاوزت الثلاثين ومازلت انتظره…
مات الرجال في عيني من بعده ياريم.