إشراقات أدبيةإشراقات متنوعة

بورتريه عن الشّاعرة السّورية “سميحة فايز مي أبو صالح” بقلم: ” بولمدايس عبد المالك”

بورتريه عن الشّاعرة السّورية سميحة فايز مي أبو صالح
حريّة مؤجّلة بين وطن معشوق و مشانق منصوبة
بولمدايس عبد المالك
1. الحريّة منحة ربّانية لا يعكّر صفوها إلاّ فاقدا للإنسانية ، عاريا من الفضائل و القيّم ..و أشنع عبودية أن يعيش الفرد حياة العبودية بين مرابع وطنه ، و يمارس عليه الاضطهاد من دخيل حاقد ، و غريب مستبدّ ؛ فيصبح الشّعر طريدا في عقر داره و تصبح مطالع الشرق التي ينتمي لها حروفه تولد مشوّهة ، تتوارى وراء استعارات و رموز و خيالات خوفا من وأدها حيّة فتموت القصيدة ألف ميتة و تقبر الكلمات و لم تزلّ بعد غضة طريّة ..
بين تلك الأشواك المنتصبة و النجود الحادة و الحفر العميقة و الرّكام الرابض يخرج صوت شاعرتنا سميحة فايز خافتا متقطّعا و لكنّه أقوى من هزيع الرّعود و أوضح من الفجر الصادق ليعلن عن انتمائه الشرقي و عشقه السرمدي لحضن وطنها الدافئ و ولائه اللامحدود في الزمان و المكان …
” وطني حضن
لم يتدفق عشبه
لا شرق أنا
فراشة أحلق
وبي غيمة
تلاحق مطر القصيدة ”
تتشكل حروفها في هيأة فراشة حالمة تارة تبحث عن مرتع لها بين ورد رياض مرابعها المحاصرة و تارة تتمثّل في صورة غيمة عطشى تلاحق مطر حريّتها الهارب و في جبّته قصيدتها المهرّبة الموعودة ..
2. لا تزال رحلة البحث عن مطر قصيدتها متواصلة و على أشدّها متجسدة في صورة مخلّص أسمته بــ” العتيق ” .. و العتق يحمل من المعاني الكثير ..فالقدم من أوكد معانيه و بون واسع بين أصيل قديم و طارئ حديث ..فالأقدم أشرف و أكمل من الحديث من حيث السبق في الوجود و التّشكيل ..إشارة قويّة لرفض كل شكل من أشكال واقعها الجديد … و بلغة الجمال و بديع الخيال تنسج شالاتها و يغسل عتيقها أثواب حضورها بماء توردّ خديها جرّاء انهمارات الدموع المتوالية .. معلنة شغفها المتدفّق من معين جنونها المطلق منتظرة غيمتها الثكلى عساها أن ترتشف من خمرك المعتّق ، و بارتدائها لحلّة الماضي بأصواف المضارع تسرد حكايتها المجنونة ..
” كان يغتسل ثوبك
خد حضوري
غَدَت
ثكلى الغيمة
أرتشفها دفقا
بمنتصف جنوني،
3. تلوّح بأياديها النّقية الدافئة و تنادي في جموع الحاضرين و الغائبين عن ذلك المعشوق الحاضر الغائب ..تستعطف الغياب مستظلة بغيمة فينيقية إغريقية ذلك الطائر الأسطوري “فينيق” العجيب الذي يجدّد نفسه بشكل متكرر كما تقول الميثولوجيا الإغريقية ..و يرمز إلى عدّة معاني و لكنها وفق السياق الدلالي أرادت يعثا جديد بعد ما اعتراها موت محقق..و إيقاد الثلج البارد كناية على ذلك … فوادعها في حقيقته تجديد لقاء و دفء موقد بعدما أطال كانون البارد بروكه و غطّت ثلوجه موقد فينيق .
” وداعا
ايها الحاضر الغائب
يا سيد الغياب
أوقدَ ثلجك
حطب ناري
موقدةُ فينيق،
أتلحف كانونها ”
4. تغيّر مسار حروفها و تمتطي متن طائر أسطوري آخر ينتمي إلى الشرق العربي ..طائر العنقاء و على هدي ألف ليلة و ليلة يذهب بها الخيال بعيدا لتؤكدّ من جديد قناعتها الثابتة و يقينها القاطع في ولادة بعث جديد و فجر صادق باسم يحافظ على الدال و يعطي للمدلول حياة أخرى بعد أن صار رمادا تدروه الرّياح ..فالنار مقبرته و هي ذاتها أرض بعثته من جديد ..و ارتماء شاعرتنا بين أحضان الأسطورة و الخرافة نوع من التنفيس و الهروب الآني لشدّة ما تعانيه من آلام تلك الهواجس النفسية الرّابضة في جدارية وجدانها المتقرّح النّازف ..و لكن الغلبة ليقينها في نهاية الحرب الدائرة رحاها بين وافد غريب حاقد و حقّ طبيعي أصيل .
” يقينٌ
بصقيع جمرك
أنتفضى
جفن الرماد
بشفاه ألمعنى
عنقاء أوردتي ”
5. و يبقى الثّلج ملمحا قارا في أبجديتها .. فهو يمثّل سيدا شريفا ينوء بثقله غيماته الحبلى على جوانح صدرها المتأججة نيرانه ، الصاهلة نداءات استغاثاته ، التائقة مهج حنانه ، الظامئة أنفاس رجائه ..و ما امتطائها لصهوة الثناء و التبجيل بــ”يا سيد الثلج ” إلا من باب الاستعطاف و الأدب على طريقة موسى عليه السّلام و أخيه هارون حين قال الله لهما عن فرعون “و قولا له قولا ليّنا ” ..فلعلّ سيد الثلج يرقّ قلبه و تحنو روحه لتضرعاته و نجيب صدرها فيستجيب و يغادر فاسحا المجال للربيع و أزهاره الفاتنة و للفراشات الحالمة و للعصافير التي بحتّ تغاريدها …
” يا سيد الثلج
يركن بصدري غمامك
ينوء أجاجه
صاهل أواره
ظمأى برجاء اللحظة
يهفو وزره الحنين ”
6. و بلغة العاطفة المكلومة تزيح السّتار عن أناها و تكشف عن حقيقة مشاعرها المكنونة التي استحالت إلى عاصفة زاحفة هوجاء و قد تلحّفت بتراتيل النّار المحتدمة و من شدّة احتراقاتها أضحت حروف أبجديتها ثورة موقوتة و تمكّن الكلوم و الجراحات من نفسيتها المستعرة ..و النّار متى امتدّ لهيبها فستحرق كلّ شيء مرّت عليه ..إشارات مبطنة لربيع ثورات قادمة ..
” كلي عاصفة تزحف
بتراتيل النار
كليمة ..”
في كل مرّة تمتطي صهوة الهروب … يعاف رمشها النوم الهادئ ، تنادي بأعلى صوت و قد علا صوتها بحّة من كثرة التكرار و الصيّاح تأمل في عودة فينيقها الأسطوري و عنقائها المتوارية ..قلبها الرقيق ضجّ من ثرثرة الوعود الشرقية الهبوب و الغربية ..قد دكّت حوافر الرّحيل أملها المنشود و صال و جال و عربد و فرّخ …جعجعة رحيل و لا طحين في الأفق .
” أيها الرحيل الثرثار
تاتي بحة بوح
حوافر صقيعك
تزقّ بالغياب
متثاقلة رمش”
7. الشاعرة سميحة فايز لا تخفي أمنيتها تجاه معشوقها الغائب الحاضر بالرغم من خيبات ظنّها المتكررة و فقدان ثقتها المقطّعة الحبال من حدّة سيوف شرقية غربية تهافتت على صدرها المبحوح و هي تعبر بحوافر خيولها الغاضبة صدر بوحها الثمل بخمر حبّ وطنها المعتّق … و في معرض هذا المشهد المسائي القاتم تعلن ولاءها القديم المتجدد و تنادي ببحة صوتها الشجيّ ، باسطة خدّها الوردي لمعشوقها عساه بأن يظفر بقبلة أخيرة من ذلك الوعد الموؤود بعد أن قطعت أملها في تغيير مقبل في الأفق البعيد …هذا عزاءها الأخير فقد أضحت سنبلة قمح لا حياة فيها و لا صخب اجتثت من أرض وطنها و ترمى بين كفي كماشة اغتراب لا رحمة فيه و لا حنان …تلك صيحتها الأخيرة و مبلغ قدرتها و آخر شمعة من شموع صيحاتها و صراخها .
” الامنية
بلسم مهب دخانك
عسيمه (قدم)
يعبرني بصدر البوح
يا طريق العشق خذ قبلتك
بكف الوعد
واحرق مسافتي
مناجلك
او يا وجع اجتثاثي
سنبلة لا صرخة لها
وصدري اغتراب”
الجزائر في 30.01.2021
الكاتب بولمدايس عبد المالك

الإدارة

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى