قناة نحو الشروق

بورتريه عن الشّاعرة العراقية شذا رأفت بقلم الاستاذ عبد المالك بو لمدايس

بورتريه عن الشّاعرة العراقية شذا رأفت
بين فكيّ كماشة الدّال و المدلول
1. جعجعة مطحنة الغربة ..غربة الوطن و غربة الأهل إذا حرّكتها عواصف الذاكرة ، و هيّجتها براكين الشّوق تداعت لها زخّات الدموع سيولا و أنهارا و تقرّحات الأنا شهيقا و زفيرا ونزيف الحروف نثرا و شعرا لما هالها مما ترى و تسمع ..
“يفيض الحبق وجدا
و يرسم خريطة غربتي
بين عينيك و القمر”
تهوى قراءة العيون لذلك يتكرر لفطها في قصائدها و لكن بمعان جديدة مولّدة …لذلك فمن المستحيل أن تنسى ملامح وطنها برغم الغيّاب فنراها و الهيبة تملأ روعها صانعة لنفسها مصلّى للاعتكاف و الصّلاة لتستدعي التّاريخ القديم ..تبتل مريم إذ هي بالمحراب و مناجاة زكريّاء .. و أسواق الشعر العكاظ حيث ما فتأت ترسل غيمات مطرها ليتلقّفها الركبان و تذهب بها الأخبار .. ذلك عزاؤها الوحيد لتستحضر نهايتها السّعيدة علّها تخبو بعض جمرات أشواقها المحتدمة في تنّور ذاكرتها التي لفّتها نكهة الصمت و التأمل و الاستغراق.
في محراب الغيّاب
يختفي مطر القصيدة
حسرة مبعثرة
بنكهة الصّمت”
2. “شذا” رسّامة شاعرة ..ألوانها حروف الشّوق و لظى جمرها …ريشتها روحها العاشقة و قد دبّ فيها مرض الحنين ..لوحتها أفق عيون وطنها التي لم تشبع بعد من مغازلة حورها الليلي و بياض لحاظها القمري.. فراحت ترسم لوحتها السّريالية بألوان ماء الحنين ..لم يغب عن خلدها بأنّ تجميع الضباب أمر مستحيل و لكن يفعل الحبّ و الشوق و الذكرى أفاعيلهم في نفسيتها العاشقة الحالمة المشرئبة نحو أفق عيون وطنّ عاثت فيه ذئاب و ثعالب ..
” لا زلت ارسم الحنين
ضبابا أجمعه ..
لأرسم أفق عينيك ”
و يبقى النّجاح بالظفر برسمة لوطنها أمل يراودها و جمر مشتعل لا يبرده إلا ماء لقاء بارد قريب.
3. صوّر وجدانية كثيرة ، وارفة ظلالها ،دانية قطافها جيّاشة الإحساس و العاطفة تداعب نوطات أرواح موسيقة تعشق التّرحال و السيّاحة في روضات وطن ينزف ..
حروف تترى تنسي بعضها بعضا ..تنساب كأفعى ترقص على ألحان حاو عاشق ..صفاء معين و صدق شعور أجنحة فراشاتها المرسلة من أوكار دالها و شرنقات مدلولها ..
فتسرح بمخيّلتها ..مرهفة سمعها و حسّها و ذاتها لصوت الوطن المبحوح داخلها ..فتقرأ بعيون روحها الثاقبة رسالة كان قد كتبها لها خصيصا من فرط الحنين و شدّة الشوق ..”كتب لها” عنوان قصيدة أرسلها لها على عجل ليفضي لها ببعض شجونه و أتراحه ..
” نوافذ الانتظار تصل إليك
كهمس في مجداف حائر
يصل عطرك عبر القوافي
أمطر صوتك دندنة الهمس
تزهر في جوف النّسمات
قصائد الحجيج ”
للانتظار شفراته الخاصة و لن تفتح إلاّ لمن يحملون تلك الأشواق العابرة للمسافات و الأماكن و الزّمن …نوافذ الوطن تبقى رقابها و أنظارها تتلهّف في كلّ لحظة عودة تلك الفراشات المهاجرة ..فالوطن يدرك بأنّ عطر القوافي المنتشر بين جنباته المحمول في قوارب همس مكسورة المجداف و هذه صورة معكوسة ينقلب فيها الوطن هذا الرمز و هذا التراب إلى آدمي له عين و لسان و شفتين و روح …ينتظر بلهفة عودة الحجيج الذين حُرم من سعيهم و طوافهم و حجهم و بركتهم ..
تتهادى في دجلتي
أحلام النّدى
على شفاه الورد
لقصيدة أنا في انتظار
مفرداتها ”
تبحث عن مفردات قصيدة وطنها الذي طال انتظارها برغم أحلامها الوردية و رسائل الحب الوردية التي أرسلتها لوطنها مرات و مرات …هذا ما أخبرته بها “أوراق قديمة”
4. الزيزفون ..الحبق ..الزنبق ..الأكفادو ..لليلاك ..الكادي قائمة طويلة لتوظيفاتها قصد ربط جسور تواصليه بينها و بين أناها ..بينها و بين وطنها ..و بينها و بين القارئ …جسور معلّقة موصولة أقامتها لتشفي غليل اشتياقها لوطنها المغيّب البعيد القريب ..موظفة أوجها دلالية لنصوصها النثرية و الشعرية و ببنيات تشكيلية و تعبيرية ساحرة …
حبّها الكبير للطبيعة و جمالها لا يكاد يعزب عن نصوصها الباذخة و قد أكسبتها خبرتها في التعامل مع الزّهور و الورد قاموسا ثريا و معاني أرحب …و لا يخفى ما لمدلولات و رمزية الورد و الأزهار في استنطاق و استثارة مكامن الجمال في الطبيعة البشرية .. فلكل زهرة و وردة ملامح و أبعاد عميقة تتناغم مع موسيقى النفس الداخلية فينتج من اجتماعها سيمفونية عالمية إنسانية .
” يا راحلا إلى عينيها
سائر على أجفان الوقت
تعتلي شوق الورد
لهفة كإغفاءة النّجوم
تقطّعت الذكرى”
قاموس حروف رقراق يعانق النجوم الجاريات في السماء مرفرفة أجنحته النورانية المعتّقة بخمر الحنين و الشّوق فتشرق الآمال في فضاءاتها كشمس ولهى متيّمة تنشد دفء جنبات أرواح ارتحلت و نبضات شوق متسارعة غائبة .. و ها هو الورد و الكادي و الليلاك و أخواتهم تهيج ميادة مقبّلة دجلة و الفرات لتستيقظ عشتار و شهر زاد من سباتهما لتتصافحا مع روح كلماتها الحانية و معانيها الحالمة .
” تنادي مسافات الوجع
سطوة التاريخ
بحكايات شهرزاد
و نبض البحر”
و تارة أخرى تذهب بمخيالها بعيدا لتستدعي عشتار على لسان شهرززاد و حكايتها ألف ليلة و ليلة …
“عشتار قصيدة الشوق
نسجت حروفها
من مخمل الورد
عزفتها قيتارة شهرزاد ”
و لا يمر عليها صباح من الصباحات إلا و تشد أغنيتها الفجرية :
“في أنشودة القمر
تعتلي صهوة نغمات الوتر
عازفة أوركسترا الورد
في خمائل الكادي و الليلاك”
تمتلك “شذا” معازف جدّ خاصة و أوتار قيتارة أخص ..أوتارها الورد و جمهورها مجاني الكادي و الليلاك المخملية …و آن الأوان للجمال أن يرقص رقصته معتليا صهوة النجوم حيث فراغ الأثير الممتد إلى ما لا نهاية …
5. لا أفق لها في هذه الحياة إلاّ أفق وطنها ..و لا حدود تحيل بينها و بين حبّها السرمديّ ..ذاك هو طريقها الذي رسمته قناعاتها المبدئية و رضيت به لنفسها في “الطريق إلى القدر”
“أمست الأحلام
كفراشة تنوء أجنحتها
تحت قطرات الماء”
اقتباس قرآنيّ لافت و توظيف جديد ساحر ..فقصّتها كقصّة كنوز قارون التي تنوء بحملها الجبال و قد طقطقت به و بها البغال و البرادين …مسكينة تلك الفراشة الضعيفة الخفيفة و قد أضحت أجنحتها من الثقل كمثل تلك الكنوز أنّى لها أن تطير و هي بعيدة عن رياض وطنها و قد أثقلتها أرزاء الغربة و أصفاد الهموم و أغلال الأحزان …صورة حزينة مؤلمة لنفستها المؤرقة المعذّبة …
6. و تزداد غربتها قساوة و تقرّحات ..فتهرب إلى سفين شراع الأحلام لعلّها تجد في هروبها هناك بعض الراحة و الهناءة ..و لكن سرعان ما تتبدّى لها أطلال ذاكرتها المهرّبة المشتّتة المرمية ..
“أطلال تؤرّق ذاكرة النّوارس
في سفن..
ترسو في أجفان التّمن
ليفيض الحنين..”
7. ما أروع الرّحلة على متن سفينة الشوق التي صنعت أخشابها شاعرتنا شذا رأفت و أبت إلا أن تكون ربانّها و تجعل من حروفها أشرعتها نحو طيوف وطنها المرتسمة في سماوات وجدانها و ذاكرتها المكلومة…
فكثّفت من زخات صورها الجمالية ..و استدعت رموز التاريخ و الأسطورة ..و اكتفت بالإبحار داخل وحدة أشعارها الموضوعية باسطة أيادي إنسانيتها و ترانيم تجربتها الوجدانية الذاتية …معالم هادية أخالها كسفينة تمخر في بحار أرواحنا المتلاطمة الأمواج ، لترسو بها في نهاية الرحلة المثيرة في مرافئ الإنسانية و السلام ..رسائلها المشفّرة و المرمّزة و المكشوفة تلفّها صور الاشتياق و الحنين و تغذيها أجنحة الأمل المرتقب بحروف إنسانية المصدر نورانية الوجهة في طريق قدرها المحتوم في صورة لقاء وطن ..
و مع رشفات من فنجان قهوتها تنتهي رحلة سفر في ثنايا حبّ لا حدود له تعالى على الماديات و المسافات و الأماكن و راح يبثّ غيمات أشواقه في زمن غزل له شالا من حديد و نار …
” فنجان قهوتي
سكب امنياته
فاض الحنين
في اوردة الشوق
رق وبخور
في مواسم الوجع
ارسمك شوقا
على ضفاف السنين
وابجدية تتلاشى
خلف شعاع عينيك ”
بولمدايس عبد المالك
الجزائر في 17.01.2021

الإدارة

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى