القصة
تشكيلات العتمة بقلم: “محمد الليثى محمد”
قصة قصيرة تشكيلات العتمة
حولها سواد الحواري الضيقة.. وعتمة المساء..تحت حذائها البلاستيكي ، أرض رخوة تغوص فيها .. تخاف أن يسمعوها .. بقلق تحسست الباب الخشبي .. وجمعت ظلها من لمبات الشارع ، وأسندت بظهرها إلى الحائط .. وتنفست ببطء .. خافت أن تعكر صمت المكان .. نقرت على الباب .. ضمت الملاءة حولها .. كأن الليل مستريح مستمتع بالنوم على البيوت والناس .. احتواها فحضنت خوفها .. واهتز الباب .. وأطل من خلاله زوج من العيون المستفسرة .. ببطء واجهت الباب .. وعلى وجهها ابتسامة باهتة.. لم تر ذلك الجسد الضخم المنزوي فوق ظل الباب .. وحدها سمعت صوتا نسائيا خشناً .. يلقي داخل البيت كلمات قصيرة: الأمانة وصلت .
كانت عيناها بالخوف تحصي ما بداخل البيت .. طشت الغسيل .. موقد الفحم ، الجوزة .. حصير قديم .. والحائط يحمل بعض طلاء باهت .. شباك مفتوح .. والصورة الكبيرة للشيخ .. بعيونه النافذة .. أحست بالخوف .. فهو داخلها قائم يعرف بالتحديد .. ماذا سوف تفعل ؟
تراه في كل مكان .. بعمامة بغير عمامة .. جلبابه مفتوح والستارة القائمة خلفه .. خضراء .. ربما حمراء .. فهو يتلون يتشكل على أي صورة يريدها .. يطير في الهواء ويذهب إلى الأراضي المقدسة في غمضة عين .. يصنع في أحاديث الناس طربا .. نشوة .. خوفا .. يعرف ويحدد .. لأجل ذلك تمنت أن يخفيها .. أن يجعلها شيئا لا يرى .. تعلقت بعيونه .. وهو قائم داخلها يحاورها .. أحست أنها محتاجه إلى سند .. سند من القوة لكي لا تخاف .
مر الرجل من جوارها وهي واقفة .. أغلقت المرأة الباب وهي لم تتحرك ..هزها الرجل فتلفتت حولها .. ولم يسمعها صوته .. بل أسلم وجهه إلى الطريق .. فأسه على كتفه ، منحني ربما .. سرواله طويل متسخ .. والسديري على فانلة بكم .. لا يلتفت خلفه.. الحركة الوحيدة هي حركة يده يرفعها إلى فمه .. ثم يهبط بها .. ليبقى خلفه دخان كثيف كقطار قديم يمر .
بصمت .. والليل تقطعه لمبات متناثرات .. وحيدات .. كاشفات عورة البيوت المتهدمة .. والأسطح التي تسكنها الكلاب .. وهي تلملم نفسها كلما أحست بالخوف .. كح الرجل .. ثم تمخض وبصق على الأرض .. ونادي على الولد النائم دوماً .. خلف مقام الشيخ .. بصوت عصبي، جاءته كلمة أنا .. بينما رفع الولد يده إلى عينيه فاركاً إياها .. مطيرا عصافير نومه .. حك ظهره بأظافره .. ولملم صوت الرجل حين قال :هات الكريك معاك .
دخل الولد المقام وخرج ..ودخل مرة أخرى ..وتناثر حول المكان، صوت حديد يتخبط ..كانت هي لا تزال خلف الولد والرجل .. الرجل والولد .. الرجل يخرج السيجارة وقبل أن تنتهي تكون الأخرى قد أشعلت .. ويبدأ صوته العصبي في الانتشار :
المره رجعت تزن تاني .. على موضوع الخلفه
أمبارح قالت : أن في دكتور جاي من بره
أقول لها : يا وليه ده أمر ربنا ، برضه محكمه رأسها أني أروح معاها
والولد مطرق .. هي الأخري مطرقة .. وحين يخرج الولد كلمات بارة .. بقرف ينسل صوت الرجل :
– ربنا ما أردش .. نعترض .. ولا نعترض
ويصمت .. فينتشر الليل والصمت ..وحفيف حركات الأرجل حولهم .. خلفهم هي تحتفظ بتلك المسافة .. وينتهي الطريق ، ويسلمهم الليل بلونه الأسود إلى طريق المقابر .. الموحش .. المظلم .. المضيء
بعيون الموتى التي ترى في الظلام .. تحت قدميها يبدأ التراب الناعم في الوصول .. بيدها تتلمس القبور .. وعلى البعد ، أمامها هو يتوقف الرجل ..تتلفت بخوف ..وتندس داخل ملاءتها ..أمامها هو بصمت ..يميل الفأس على جانبه ويسحب التراب .. خلفه الولد يسحب أيضا .. خلفهم هي بعيون تسمع ولا ترى .. تعرف أنها أقدمت على نهاية المطاف .. قال لها زوجها . وهو يندس بجوارها في إحدى الليالي الكثيرة :
ربنا يجعلها ليلة مباركة ..ويرزقنا بالولد الصالح
ولأن الولد لا يجيء بكثرة الليالي .. لأجل ذلك فعلت كل شيء .. ولم يبق غير شيء واحد .. ارتعشت أمامه ..وانتبهت إلى صوت الرجل يتناثر حولها (بسم الله الرحمن الرحيم ) كأن الراقد تحت التراب قد انكشف .. الرأس الملفوفة بالغطاء الأبيض .. الذي تحول بفعل المكوث الطويل إلى أصفر باهت مهترئ .. بتلك الرهبة التي يحدثها الموت في البدن .. تحسس الجسد الممدد . وحاول أن يضمه إلى صدره لكنه تكسر .. وتناثرت أجزاؤه تحته .. يهمس الولد.. ويحفر بجوار الميت .. فيما كان الرعب قد احتواها وحولها إلى قطعة سوداء .. وحيدة متسمرة مكانها لا ترى ولا تسمع همس الولد .. الرجل يهبط إلى الحفرة ويتحسس ثم يخرج .. وهي تنظر برعب .. شيء من المؤكد لا يمكن وصفه ..فكرت أن تقول :
نساء كثيرات قبلها فعلن ذلك
كأن الرجل مازال يهبط داخل الحفرة يساوي جزاءً هنا .. يرفع الحصى يتحسس بيده ثم ينام داخل الحفرة .. وعندما يطمئن أنها نظيفة ناعمة ..يشير إليها .. ترتعش .. وبيدها تفرد الملاءة .. فينكشف الجزء الأكبر من جسدها العاري ..بيضاء تضيء ليل المقابر بالرغبة التي تنتشر في الجسد فتملك الليل .. كالمسحورة تسير لا تعرف إن كانت هي أم لا .. برعب اقتربت .. لامست كومة التراب .. بخوف العروس خلعت حذاءها البلاستيكي .. وعلى الوجه كانت ابتسامة باهتة ، ربما من زمن قديم .. دخلت الحفرة واقفة ترتعش .. ببطء حاولت أن تجلس .. بمؤخرتها العارية لامست باطن الحفرة .. قفزت .. أحست بالخوف .. بالرعب الذي يحدثه انكسار الحلم .. جلست مرة واحدة ..تمدد الجسد داخل الحفرة الجديدة بجوار القبر القديم .. أغمضت عينيها وغابت عن الوعي .. حولها كان الرجل .. يجمع التراب، وينثره فوق الجسد الممدد .. التراب يلتصق بفعل العرق المتفصد من الجسد المحموم .. ترتعش هي من ملامسة حبات الثرى .. ويدي الرجل تصطدم .. ترفع يدها وتحمي ما بين فخذيها .. وحين ينتهي الرجل يفرك كفيه على الجسد .. يتحسس الصديري .. ويسحب علبة السجائر .. وخلف أحد القبور يدخن بصمت .. ويهمس الولد ويبدأ في سرد الحكايات.. سر مقام الشيخ .. ونساء الفيلم الأخير .. الرجل يدخن بصمت .. الصوت ينتشر .. النائمة بالخوف لا تسمع .. لكنه هناك قائم داخلها يحثها أن تصبر لكي تفوز بذلك الحلم القديم .. الرعشة تزداد .. وأعضاؤها بالرعشة تتحرك .. تهتز ذرات التراب فيبين جزء هنا .. وجزء هناك .. تشهق .. فيرتفع الثدي كنصل الخنجر ، ثم تئن . .بصدرها العاري .. تئن .. فيصمت الولد .. ويطفئ الرجل السيجارة .. تستجمع باقي جسدها ، وتصرخ صرخة عظيمة ، ترفع من خلف القبر رأسين .. بعيون لا تحمل معنى .. تتابع الجسد الذي ينثر خلفه ذرات التراب .. على البعد تكون زوجة الرجل صاحبة الجسد الضخم قد تلقفت الجسد .. في ملاءة خضراء .. تلملمه من عيون .. الليل .. والقبور .. وتهمس لها :
مبروك عليك .. يتربى في عزك .
————— القاص محمد الليثى محمد —— مصر —- مدينة اسوان