إشراقات أدبيةقناة نحو الشروق

جماليات التناص في ديوان (دياجر الغياب ) للشاعرة “صورية حمدوش” بقلم: “محمد رمضان الجبور”

جماليات التناص في ديوان (دياجر الغياب ) للشاعرة صورية حمدوش من الجزائر
بقلم / محمد رمضان الجبور / الأردن
من الكتب التي وصلتني حديثاً ديوان شعري للشاعرة الجزائرية صورية حمدوش ، والشاعرة من مواليد ولاية ميلة /الجزائر ، وعضو المجلس الوطن للاتحاد الجزائري للملكية الفكرية ، وعضو في أكثر من محفل ثقافي ، وقد صدر لها :
أوراق من النبض ، بين فتق الجراح ورتقها ، وديوان ثالث بعنوان : دياجر الغياب وهو الديوان الذي بين أيدينا ، وقد ضم الديوان بين دفتيه خمساً وخمسين قصيدة ، تنوعت موضوعاتها وإن كان معظمها قد تمحور حول قضية الوطن وحب الوطن والدفاع عن الوطن .
وأحببت أن ألقي الضوء على هذا الديوان من جانب شدني كثيراً وأنا ممعناً في قراءة قصائده التي تشدُّ المتلقي للمتابعة والاستمتاع ، فكانت جماليات التناص لها الحضور الأكثر وضوحاً في نصوص الشاعرة .
لقد أصبحت جمالية النص الأدبي سواء كان نثراً أو شعراً هدف العديد من الاتجاهات النقدية الحديثة ، والتناص احدى الظواهر الفنية التي من خلالها نستطيع الكشف عن جماليات الإبداع الشعري ، ولا شك أن البحث في آليات التناص يحتاج من الباحث الكثير من الدقة والتحليل ، فظاهرة التناص من الظواهر السائدة في القصيدة الحديثة ، ومن العناصر التي تُسهم في بناء القصيدة ، وتعتبر من الأدوات التي تكشف عن عمق النص الأدبي ، وتعمل على تفسير ما يدور حول النص وكشف خباياه .
أن من الآليات الجمالية التي برزت في ديوان (دياجر الغياب) وأضافت إلى هذا المشروع الشعري المزيد من العناصر والدلائل الجمالية خاصية التناص التي قلما يخلو منها نص أدبي ، فقد جُبلت النفس البشرية بما يسمى بالتعالق ، فيعلق في النفس ما استحسنته النفس ، وقبل أن نبدأ لا بد أن نمر مروراً عابراً غلى بعض من عرفوا التناص ، فالدكتور أحمد الزعبي يقول ” إن التناص – في أبسط صوره – يعني أن يتضمن نص أدبي ما نصوصاً أو أفكاراً أخرى سابقة عليه، عن طريق الاقتباس أو التضمين أو الإشارة أو ما شابه ذلك من المقروء الثقافي لدى الأديب، بحيث تندمج هذه النصوص أو الأفكار مع النص الأصلي، وتمتزج فيه ليتشكل نص جديد واحد متكامل”
وما لفت انتباهي أثناء قراءة وتصفح ديوان الشاعرة (صورية حمدوش) دياجر الغياب هذا الكم من تجليات ظاهرة التناص ، فقد ظهر التناص في الكثير من قصائد الديوان ، حتى أصبح التناص ظاهر أسلوبية في شعر الشاعرة صورية حمدوش .
وما يعزز هذه الظاهرة ويقويها لدى الشاعرة الثقافة الواسعة التي تتمتع بها الشاعرة واطلاعها على القديم والحديث ، وغزارة قاموسها اللغوي والمعرفي .
ولقد أحصيت أكثر من خمسين موقعاً في ديوان الشاعرة صورية حمدوش تناصت فيها واستخدمت أنواعاً متعددة من أساليب التناص ، وهذا أن دل على شيء فأنه يدل على مدى ما تتمتع به الشاعرة من ثقافة دينية وتاريخية وعلمية ، حتى استطاعت توظيف مثل هذه الظاهرة الفنية في شعرها .
وقد كان القرآن الكريم والحديث الشريف والتراث القديم المصدر الذي نهلت منه الشاعرة في أكثر نصوصها ، وقد أختلف هذا التناص ما بين استلهام بعض الآيات القرآنية بوجود مفردات من القرآن الكريم بعينها تارة ، واستلهام بعض المعاني والقصص الدينية والقرآنية تارة أخرى ، وسوف نتجول في ديوان الشاعرة لنقف على آليات التناص ، وكيف استطاعت الشاعرة توظيف هذه الظاهرة بأسلوب جميل ينم عن ثقافة واسعة لدى الشاعرة .
ففي قصيدة بعنوان (جسد أجوف) تقول الشاعرة :
بسطتُ لك الروحَ
كراحةِ اليدِ
وجعلتُ القلبَ كلَ نبضٍ فيه يتلهفُ
لرؤية ملامحِ ذلك الوجهِ
تُزينه بسمةٌ في خوفٍ
كأنَّها تسترقها من أصحابِ الكهف
فالشاعرة في النص السابق تتناص مع قصة من قصص القرآن الكريم ، قصة أصحاب الكهف ، “أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنۡ ءَايَٰتِنَا عَجَبًا٩ ” فالتناص جاء يحمل دلالة البعد الزمني ويحمل دلالة أخرى تتعلق بالفعل والمشهد العام لقصة أهل الكهف وهو النوم . فهذه هي صفات البسمة التي صورتها الشاعرة .
وفي نص آخر بعنوان ( الأوسكار ) تقول الشاعرة :
وتلك الشهامة وصفات الرجولة الأصيلة
جعلتك تغزو كياني
تنزع عني ثوب المآسي
وتكللني بحلل من الفرح تصنع دهشتي
وكأنك يوسف عصري وحياتي
لهذا لا تلمني إن همتُ بك حباً
وصرت ولادة عصري
تتعد أشكال التناص الديني في ديوان (دياجر الغياب ) للشاعرة صورية حمدوش ، فنجد تناصها مع المفردة القرآنية ، ومع الجملة المركبة ، ومع المعنى أحيانا ، ومع القصة القرآنية ، ففي النص السابق تناصت الشاعرة مع المفردة القرآنية (يوسف) ومع القصة القرآنية التي تتعلق بسيدنا يوسف عليه السلام ، وفي النص السابق أيضاً نرى الشاعرة قد تناصت وتعالقت مع قصة من التراث العربي ، وهي قصة (ولادة بنت المستكفي ) وهي شاعرة عربية وبنت الخليفة الأموي المستكفي بالله ولها قصة حب تتحدث عنها الأجيال مع الشاعر أبن زيدون ، فبعد أن وصفت لنا الشاعرة ذاك الحبيب الذي جمع كل الصفات الحسنة حتى كان في نظرها وكأنه سيدنا يوسف بالنسبة لها ، أصبغت على حالها صفة (ولادة ) في جمالها وشعرها وجاءت بمفردة توضح للمتلقي ما أرادته الشاعرة وهي كلمة (عصري) .
وفي قصيدة أخرى بعنوان (كسرت قلبي كما المرايا) تقول الشاعرة :
وأهديتك القلبَ على طبكٍ من لجينٍ
وزدتُ فوقهُ روحي وكلَ السنين
لأن الحبَ عطاءٌ ولو نحرتَ الوتين
تتناص الشاعرة مع المفردة القرآنية الواردة في سورة الحاقة (الوتين) وتعني نياط القلب ، أو حبل موصول بالقلب ” وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَيۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِيلِ٤٤ لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡيَمِينِ٤٥ ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِينَ ٤٦ ”
ومفردة الوتين من المفردات التي تكررت في أكثر من مكان في ديوان الشاعرة (دياجر الغياب) ، فقد ظهرت في قصيدة (أرحلوا ) :
الذي لبانته من وتيني
وفي قصيدة (كبوات) :
فرشتُ له الروح
بساطاً من وتيني
وفي قصيدة بعنوان (رحلة المخاض ) :
والقلب يقفز وللفرحة يسرق
لأنك فقط عزفت على الوتين ِ
وفي كل مكان في هذه القصائد كانت مفردة (الوتين ) تحمل دلالة تتناسب وما أرادته الشاعرة ومعنى يختلف باختلاف الموقع والحالة التي وظفتها الشاعرة ، فهي مرة بساطاً وأخرى وتراً ، ولكن يبقى المعنى الأكبر لها أنها لها علاقة بنياط القلب دلالة على أهميتها .
ويقول د. محمد مفتاح في كتابه تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص) :
” أن التناص هو تعالق ( الدخول في علاقة ) نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة ”
وفي قصيدة بعنوان (أرخى سدوله ) نرى أن الشاعرة قد وظفت أكثر من نوع من أنواع التناص ، فهناك التناص الديني والتناص من التراث الشعري ، فعنوان القصيدة قد تناص مع قول الشاعر أمرؤ القيس في معلقته الشهيرة :

وليلٍ كمَوجِ البحر أرخى سدولَه
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
وكأن الشاعرة أرادت أن تبث أحزانها وهمومها ، فتناصت مع معلقة أمرئ القيس في وصف الليل وما به من هموم وأحزان فهي تقول :
أَرْخَى سُدُولَه
أربعينيةٌ أنَا
ما تزالُ تعيش مراهقةَ القلبِ
وبنقاءِ طفلةٍ
وعقلِ أربعينية مُدْ كانتْ مُراهقة
لكنِّي بين ليلة وضُحاها بلغتُ منَ العُمرِ عُتِيا
والقلبُ اكتسَى شيباً
لا بلْ صارَ جسدِي هيكٌلا
هكذا فجأة
فما صَدَقتُ أن القلبَ بعدَ كلِ ذلك الهَوىَّ
وذلك الوجعِ أرخَى سُدُولَهُ وَوَلى
فالشاعرة تشكو السنين والأيام وتشكو الجسد الذي صار هيكلا ، وتشكو القلب والوجع .
وفي القصيدة كما قلنا أنواع أخرى من التناص فقد تناصت الشاعرة في قولها
وسيصحو القلب
ويقول لك ما ودعك ربك وما قلى
فما زلتُ غير موقنة أن القلب تنحى
وسلّم رايته للعقل بعد سجالات ٍ حالكة الدجى
فقد تناصت الشاعرة في النص السابق مع قوله تعالى في سورة الضحى
” بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
وَٱلضُّحَىٰ١ وَٱلَّيۡلِ إِذَا سَجَىٰ٢ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ٣ ”
يظلّ القرآن الكريم بإعجازه وبيانه ومعانيه ودقة وصفه وبلاغته المعين الذي لا ينضب والبحر الذي لا يجف ، ففيه الكثير الكثير من الموضوعات التي تهم الإنسان في كل زمانٍ ومكان ، وفيه الكثير من الحلول لما يواجه الإنسان في حياته من مشكلات ، لذا وجدنا الشعراء ينهلون من معينه ويستلهمون ويقتبسون من آياته لمعالجة قضاياهم المعاصرة .
الشاعرة صورية حمدوش من الذين يعشقون الوطن ويترنمون بذكره ، فقد ضم الديوان الكثير من القصائد ، تغنّت فيها الشاعرة بالوطن وبثت عواطفها وأحزانها للوطن ، ولم تنسى أن تُعرج في قصائدها على أولئك الذين قدموا أرواحهم للوطن ففي قصيدة بعنوان ( جنة الأرض) تقول الشاعرة :
وما غزو فرنسا العجوز
سوى صفحة عابرة
وإن تركت أذنابها
فسيجتثون سراعا إلى المقبرة
أبناء الأمير عبد القادر
وابن باديس لهم متصدرة
الصمت جلجل بالأرواح
وعلت بالشوارع منابره
الجزائر بلاد محرمة
كعبة الثوار المفاخرة
فالشاعرة في النص السابق تُعرج على الاستعمار الفرنسي للجزائر وتصفه بأنه ليس إلا صفحة عابرة في تاريخ الجزائر ولم يبق منه إلا الأذناب ومصيرهم إلى المقابر ، ثم تتناص مع أسماء لها تاريخ مُشرف في تاريخ الجزائر ، فتذكر لنا الأمير عبد القادر الجزائري وعبد الحميد بن باديس ، فهي بذلك تتناص مع التاريخ والتراث الناصع البياض ، فتعيد إلى الأذهان ملامح الثورة الجزائرية والتحرر من الاستعمار . فالجزائر محرمة على المجرمين وكعبة للثوار والأبطال .
وفي قصيدة بعنوان ( الدين الجديد ) تقول الشاعرة صورية حمدوش :
وحيث ما وليت وجهك
سيقابلك قلبي والهوى
فلا المسافات تقهرني
ولا الغياب ولا الجوى
ففي النص السابق تتناص الشاعرة مع قوله تعالى في سورة البقرة ” وَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ١١٥
فالشاعرة أرادت أن تعبر لمن أحبت أنها موجودة دائماً في كل أتجاه وفي كل مكان دون تحديد جهة معينة بل هي تريد كل الجهات بلا استثناء فتناصت مع الآية التي تحدثت عن اتجاه القبلة في سورة البقرة تناصت معها في اللفظ فقط .
قد لا يسمح لنا في هذه العجالة أن نقف على كل ما ورد من تناص في ديوان الشاعرة ، فكما ذكرنا في بداية الحديث أن هناك الكثير من هذه الظاهرة الفنية في ديوان الشاعرة ، ويظل هذا الديوان أضافة نوعية لرفوف المكتبة العربية ، ويستحق التوقف والدراسة من أكثر من زاوية .

الإدارة

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى