حب … عذري ؟. بقلم سليمة مليزي
قصة قصيرة
قصة واقعية من تاريخ النضال الجزائري
– نسمات محملة بشذى الورد وروائح الريحان والزعتر البري ..
ونفحات هواء تأتي على مسافات الروح .. نهضت القرية
على صياح الديكة .. ورائحة الخبز الطازجة التي يسافر عطرها
في كل الفضاءات …يمتد بصري لمتتاليات ذهول اخرى….
سماء تحتضن غيومها جبل (مجونس ) تظهر قمته البيضاء يكسوها لون الثلج
كعمامة تنحت الأمل من حنايا الفضاء وتزرعه على القرية الحزينة ..
ولان مسافات أضحت توحي بقدوم المطر ..
يسود الشعور بهدوء ما قبل العاصفة ..
ليخرج مختار مسرعا ينادي الراعي الذي تأهب ليسوق الماشية نحو المرعى..
_ (( يا هه يا حامة يا هه … يا ورجع الشياه للكوري ..؟ )) نظر اليه حامة باستغراب : ما به هذا الرجل، قليلا من السحب أفزعته ..
– كانت تقول أمي ( اذا سحبت مع الصباح رجع دابك للمراح .. وإذا سحبت مع العشية سوق دابك للمشي..)
– خذها حكمة مني أيها الراعي. ستمطر اليوم .. !؟؟
دمدم حامة بكلمات غير مفهومة وراح يضرب الماشية (. آس آس آس .. ) اللعنة على هذا اليوم … نكد من صباح ربي … أكيد اليوم ستكون أشغال شاقة في ذلك الإسطبل ، لتنظيف بقايا الماشية. ونقلها إلي رأس (الزبالة)
فالشتاء هذه السنة سيكون قاسيا ..لست أدري ماذا حدث لتلك المسكينة الخادمة التي تنظف آلإسطبل … غائبة مند أيام ، وها أنا أقوم بكل الأشغال !؟
كان البيت العتيق لسي احمد من اجمل البيوت في القرية بناه مهندس معماري. إيطالي. حتى الحطب استورده من إيطاليا ..
آه .. من يستطيع ان يرفع رأسه إلي نوافذ البيت. والله ستقطع رأسه!؟ كانت خديجة الفتاة المدللة من اجمل فتيات القرية .. جمال .. وجاه .. واصل. وغنا .. آه على حظي السيئ لماذا ولدت فقيرا. .. اتذكر عندما كنا صغارا كنا نلتقي قرب الينبوع .. كانت تحب اللعب معي ..
( يسترجع حامة ذكريات الطفولة .. يوم كان يجمع بقايا الفاكهة الصيفية التي كانت تسقط خارج سور حديقة سي أحمد. .. ومرة سمع خديجة وهي تصرخ بأعلى صوتها. .. فصعد مسرعا تسلق الشجرة ونكز على الصور .. كان منظرا مخيفا. ومضحكا عندما وجد خديجة عيونها مثبتة نحو جدار النبع ووجهها شاحب اللون. وهي ترتعد..وسلة التين التي قطفتها من الشجرة متناثرً على الأرض .
– أنظر هناك ثعبان كبير كنت أغسل التين فخرج إلي. من بين تلك الشجرة .!؟
– لا تخافي يا خديجة ( كنت أريد أن أكون ذلك البطل الذي ينقذ الأميرة من الخطر…؟ )
حملت صخرة كبيرة وضربته على الرأس فأرديته قتيلا ..
رمت خديجة نفسها على صدري وهي تشهق بالبكاء .. كم كانت طريةٌ غضتٌ رائحتها شهية تشبه الأمراء .. وهي فعلا ابنة الأمراء ..!؟
لن أنسى ذالك اليوم .. غسلت لها وجهها بماء النبع البارد المنعش. وجمعت لها التين .. ولم اكن يومها أريد مفارقاتها ..
– آلا تذهبين معي اليوم لنقطف أزهار النرجس. من الوادي !؟
– لا أنا خائفة منظر الثعبان ارعبني .!؟
سمعت صوت من باحة الدار ..يناديها ..فراحت مسرعة
– إنها أمي تناديني يجب علي الذهاب .. سلام .
منذ ذالك اليوم عرفت معنى أن تكون الأنثي رمزا من رموز الإحساس. والجمال بالنسبة للرجل .. تركت بداخلي حزنا أعمق من الذي اعتراني يوم أدركت مدى فقري . من روحها التي تزورني كلما تذكرت طيفها .. و رائحتها العذبة التي لا تفارقني ..
– استيقظت على صراخ سي المختار الذي لطم وجهي. بماء بارد افزعني. من حلمي الجميل .!؟
غفوت من شدت التعب تحت شجرة التوت العريقة التي تمتد أغصانها الى السماء .
– انهض السماء تكاد تمطر وأنت لم تنه عملك ..انت لست في رزق أبيك.. !؟
سأعود الى رائحة ( الكوري ) النتنة وأمري لله !!!
كانت لاله اليامنة السيدة الوحيدة التي تحن علي بينما أنا على عتبة الباب وجدت تلك السيدة الطيبة جاءتني بقليل من الكسرة واللبن لأسد به زمنا من الرمق لأنني لم أتناول الطعام منذ امس .. لا توجد في البيت حفنة من الطحين .. اللعنة على هذه الحرب !؟.
– يا حامة تعال. !! تناول. غداءك وهذه بعض الفاكهة، ثم استأنف العمل ..
سبحان الله وكأنها سمعتني هذه السيدة الكريمة ابنة الكرماء !؟
جزاك الله خيرا سيدتي .
كنت أحدثها وأنا مطأطأ الرأس لأنه لو رآني سي المختار أنظر إليها سيقتلني ..
هكذا عائلات النبلاء. لا أحد يستطيع النظر إلى نسائهم ..
( صح لاله ربي يخليك ) وانصرفت مسرعاً واللبن يتقاطر من ( البوقال)1 ألمصنوع من الفخار كنت أرى العجوز حجيلة تأخذهم إلي رأس الهضبة. وتشعل النار ( بالوقيد )2 من أجل كيهم بعدما تنتهي لآلة اليامنة من صنعهم حتى تحافظ على صلابتهم.
هبت ريح باردة في عز حرارة الخريف ..ههها ها هي نبوءة سي المختار تتحقق هناك أمطار قادمة من جبل ( مجونس) ..حتما ستحدث فيضانات …أه .. جميل اليوم سأبيت هنا على الأفل سأتعشى اللحم والكسكسي .. في بيت سي أجمد كل وليمة ..
( أشهد على هذا البيت الكبير لأحمد إبن القاضي طابقه العلوي كله زجاج، وعندما يحين وقت الحصاد كان القمح المنثور في باحة القصر تطلع عليه الشمس فتعكس نوره على زجاج الطابق العلوي إين توجد غرفة الضيوف التي لا يدخلها أحد يقال انها مفروشة بزرابي ونمارق ومزينة بالنحاس .. فكان زجاج القصر ينير القرية .. فيعتقدون أهلها ان الشمس تشرق من بيت احمد ابن القاضي … وعندما ينزل الى القرية يمتطي حصانه الأبيض (وبرنوسه)3 الأبيض وبجمل بندقيته .. يبدوا وكأنه سحابة تمشي على الأرض ..حتى كلبه ابيض اللون .. ويجوب أراضيه الخصبة التي تمتد على مد البصر … وكلما مرى سي أحمد على مكان.. يفسح له الطريق لهيبته وقوته وجماله .. و يقولون السماء لربي والأرض لأبن القاضي … و كل ليلة تقيم الولائم في قصره وكل عابر سبيل يقصد بيته لكرمه .. والأراضي الشاسعة التي يملكها.. من خيرات القمح البليوني الممتاز… وجنائن من الفواكه بعضها نادر الوجود في القرية ..؟
– يقولون انه صعد للجبل من أجل الالتحاق بالمجاهدين سمعت سي المختار يكلم ابنه .. ذات ليلة لما نزل إلي قعر المطمور ليجلب له ذخيرة من الأسلحة والاحتياجات التي يرسلها إلي المجاهدين .. حتى أنا أريد أن التحق بالجبل، ولكنني خائف من سي المختار لا يجد من يخدمه مثلي، بقينا وأنا وهو وحدنا في القرية.. ذات يوم قال اتبعني:
– آهٍ.. الحمد لله أنني أكملت عملي اليوم هكذا يكون راضي عني سي المختار .
الجزائر 24 نوفمبر 2014
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
هوامش :
1 ( البوقال ) اناء مصنوع من الفخار لاحتساء اللبن والماء اسم بربري
2 ( الوقيد ) خلاصة فضلات الماشية تنشف في الشمس وتتحول الى وقود من اجل اشعال النار
( البرنوس )3 اللباس التقليدي للرجال مصنوع من الصوف .
حدثت هذه القصة في خمسينيات القرن الماضي اثناء الثورة التحريرية الجزائرية
.فائزة بالجائزة العربية للقصة . 2016