إشراقات أدبيةالمقال

حديث الجمعة بقلم على الشافعي

حديث الجمعة بقلم على الشافعي
الحكواتي
حديثي اليوم ــ يا سادة يا كرام ــ عن شخصية ظريفة محببة الى القلب بلباسها الطريف وحديثها الظريف , وصوتها الشجي اللطيف , حفظت لنا ارث الاجداد ونقلته للأحفاد , حفظت لنا تاريخنا المُشرق , واساطير المغرب والمَشرق , وتراثنا الادبي المُغدق , حفظت لنا سير العظماء من قادتنا , وسردتها على مسامع الاباء والاجداد عبر الزمن العريق , فتسلّوا بها في ليالي شتائهم الطويل وسمرهم الجميل , وتفاعلوا معها وحفظوها عن ظهر قلب , وتناقلوها جيلا بعد جيل . حفظت لنا ملاحم العرب الكبرى (حرب البسوس) وذي قار وسيرة الملك سيف بن ذي يزن وعنترة وتغريبة بني هلال , والظاهر بيبرس وحرب المغول والصليبيين وغيرها من الملاحم والبطولات , اضافة الى اساطيرهم وخرافاتهم كعبقر والف ليلة وليلة , في عصور عزت فيها القراءة والكتابة . تجسدت في شخصه عاداتنا وتقالدنا واعرافنا , دخل بيوتنا وتجمعاتنا , وشاركنا اعيادنا ومواسمنا ومناسباتنا , احبَّه كبارنا وصغارنا , وقلّدوه ــ بعد ان اصبح ذكرى ــ في مدارسنا وعلى خشبات مسارحنا . تذكره مقاهي دمشق وحلب وبيروت والقدس وحيفا وعمان حتى منتصف القرن الماضي تقريبا حيث افل نجمه ـــ بعد انتشار المذياع ( الحاكي)ومن ثم التلفاز اللذان حلا محله ــ لكن ذكره لم يأفل . من هذه الشخصية التي اخذت منا كل هذا الوصف ؟ ما اصلها وما صفاتها وتأثيرها في المجتمع ؟ واثرها في حفظ التراث والتاريخ وسير العظماء ؟ فسأقول لكم بعد ان توحدوا الله :
الحكواتي ــ يا دام عزكم ــ مهنة تراثية موجودة منذ أزمنة طويلة , فقد عَرفت الحضارات القديمة ـــ مصر الفرعونية وبلاد الإغريق والهند وبلاد الرافدين والجزيرة العربية ـــ فنون رواية الحكايات بأشكالها المختلفة . ويمكن القول أن فن الحكواتي في جانب منه فن تمثيلي منذ القدم . يستخدم فيه الحكواتي إيماءاته الجسدية والصوتية ، ويخلط بين السرد والالقاء والحوار ، وهو يدرك أهمية أن يلفت انتباه واهتمام الجمهور ، طوال مدة السرد ، حيث يتحول هذا الجمهور من مشاهد الى مشارك .
عرف المجتمع العربي القبلي الحكواتي وفنون الحكاية منذ ما قبل الإسلام , وكانت مواضيع الحكايات غنية بأحداث التاريخ والاخبار القديمة والجديدة والحكايات الخرافية المتصلة بالقيم السائدة . وكان الحاكي (الحكواتي) يتمتع باللباقة وطلاقة اللسان ومعرفة تامة بأحوال المستمعين ونفسياتهم ، كان يعرف السير والأمثال والأشعار وأخبار الحوادث ، كان بمثابة المعلم ، ناقل الخبرة وصانع الاعاجيب . وكان العرب يدعون الحاكي آو السامر الى مجالسهم ونواديهم للاستماع إليه، بغية التسلية والعبرة والموعظة الحسنة، والخبرة والمتعة , وكانت الحكاية دائما شفاهية غير مكتوبة .
يعد الحكواتي الشخص المبدع لفن ”المقامات” الذي هو من أهم الفنون الأدبية التي ظهرت في العصر العباسي والتي لم تأخذ حقها مثل باقي الفنون ، فهي قصة قصيرة تكتب بلغة إيقاعية ، مطعمة بالشعر ، يسردها الحكواتي ، وتدور حول حدث واحد ، في زمن محدود ، ومنطقة واحدة ، هدفها نقد العادات والتقاليد السيئة والشخصيات السلبية فى المجتمع ، اشهرها (مقامات الحريري وبديع الزمان الهمذاني ), وعن الحكواتي تطور فن المسرح ، وكتابة القصص والروايات مستوحاة من الحكواتي .
اشتهرت مهنة الحكواتي في بلاد الشام وبخاصة مدينة دمشق منذ مطلع القرن التاسع عشر ، وقد حظيت بشعبية كبيرة جعلتها جزءاً من التراث الشعبي في هذه البلاد , فلا يوجد مقهى او خان او حمام فيها إلا وفيه حكواتي يسلي الزبائن ويتحفهم , ثم انتشرت في باقي مدن بلاد الشام بدءا بحلب مرورا ببيروت فالقدس وحيفا ثم عمان .
يمتاز الحكواتي بسرعة البديهة ، والقدرة على الحفظ ، والارتجال وتأليف القصص ، إضافة إلى القدرة على النشيد والغناء والتمثيل باليد والصوت . وله دور كبير في غرس القيم والفضائل عند الشباب خاصّة وتوجيههم الاتجاه الصحيح, مثل الصدق والشجاعة والمروءة والأمانة والنخوة وعزة النفس والكرامة ,عن طريق الشخصيّات والأحداث التي يسوقها . وهو الى ذلك شخصيّة مثقّفة وذات خبرة ومهارة في سرد القصص والروايات المُفعمة بالمغامرات والأحداث المشوّقة ، والقدرة على جذب انتباه المستمعين وتشويقهم لمعرفة باقي التفاصيل
عادة ما يلبس الحكواتي الزي التقليدي للبلد التي يقيم فيها او يزورها , ثم يجلس على اريكة مرتفعة قليلاً، ومعه كتابه لا يفارقه، فيلتف الناس حوله صغارًا كانوا أم كبارًا، وعندما يبدأ بسرد القصّة يسود الهدوء وحسن الاستماع ، ثم تراهم تارًة ترتفع أصواتهم فرحًا وتارًة ترتفع حزنًا وهجاًء ، بحسب نبرة صوت الحَكواتي وحركات يديه ورأسه المتناغمة مع حال بطل الحكاية , اذ يتفنن في وصف ملامح البطل وعلامات نبوغه , ساردا الملاحم والبطولات التي خاض غمارها , والمآزق والازمات التي وقع فيها , والمواقف المثيرة التي تعرض لها , وكيف نجا بشجاعته وذكائه , ملونا صوته حسب الموقف علوا وانخفاضا وتضخيما وترقيقا حسب مقتضى الحال , بأسلوب مشوق يجعل الحاضرين يتصورون الحدث ويتمثلونه ويعيشونه ويندمجون معه , فيسعدون بانتصارات بطلهم معبرين عن ذلك بالتصفيق والتعليق باللهجات الشامية :(الله محيي اصلك)( يسعد البطن اللي حملك ) , ويحزنون لما يتعرض له من مازق وازمات وخذلان وخيانات (يا باطل على الرجال !) ( يا حيف والله) .
يروى انه في أحدى الأمسيات وبينما الحكواتي ( أبو محمود ) يروي قصة عنترة اذ وقع عنترة في الأسر ، وهنا سمع أبو محمود أذان العشاء فأغلق كتابه كعادته ووعد جمهوره بإكمال حكايته في اليوم التالي , فخرج احد السامعين من المقهى مكفهر الوجه ، غير مصدق أن عنترة قد وقع في أيدي الأعداء . دخل الرجل بيته فاستقبلته زوجته بالترحاب ولكنه تجاهلها, وعندما أعدت له طعام العشاء رفض أن يأكل أو أن يشرب قائلا : كيف استمتع بالطعام والشراب وعنترة في اسر الاعداء (يا باطل والله على الرجال ) , وظل طوال الليل مستلقيًا على الفراش مهموما ينفخ لا يأتيه نوم ، كيف ينام ويترك عنترة يعاني الأسر . وكانت الدقائق تمضي ببطء شديد ، وهو يفكر ماذا يمكنه أن يفعل لكي يخلص عنترة ، وفجأة استقام واقفًا واستل سكينًا من المطبخ ، وخرج قاصد بيت الحكواتي , ضرب الباب بقوة وأيقظه : افتح الباب , يا رجل كيف يأتيك نوم وقد وضعت عنترة في الأسر ؟ قم فأخرجه وأعطيك ما تحصل عليه من الجمهور في ليلتين والا ذبحتك بالسكين . رضخ الحكواتي أمام إلحاح الرجل ، وأدخله بيته فأكمل له الحكاية حتى خروج عنترة من الأسر . التقى بحبيبته عبلة بنت مالك ، فقام الرجل وقبل راس الحكواتي وشكره , وحاول أن يعطيه أجره فرفض أبو محمود وقال : وأنا ايضا لا استطيع النوم وعنترة في سجن الأعداء . طاب يومكم .

الإدارة

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى