إشراقات أدبيةالقصة

دار الشجرة بقلم خوله البصري _العراق

دار الشجرة
على اسوار بغداد القت الشمس الدافئة اشعتها وتلألآ لونها الذهبي فوق الحجر الجيري الاصفر ليكتب على كل حجر منها حكاية بغدادية .عن حب وئدته الاحقاد .أو عشق قتلته الحروب. أو امل دفن تحت تراب اقدام الغزاة.
بغداد ..مازالت تسقط كل ليلة ويُقتل فيها الحب ,,لتعود فتنهض صباحا وعلى صفحات لونها البهي حب اخر .مازالت تبتسم سخرية في وجوه السلاجقة والبويهيين والمغول والتتار والعثمانيين والانكليز والطغاة .مازالت تسخر من جهلهم وحمق عقولهم.. ألًايتعض لاحقهم بسابقهم , وأن يكرروا الاخطاء ذاتها .
فأي حمق هذا ؟ واي سفه ؟كانت تعلم انها باقية وهم راحلون وان رحيلهم يكون مرملا بدماء اجسادهم واجساد احبتهم وان قتل احبتها له باهض الثمن .هكذا حكت بغداد حكاية من حكاياتها وهي تنتصف الصحراء كأنها بسورها الذهبي فص زبرجد اخضر تتشابك الوان قوس قزح في طبقاته كلما امعن الناظر فيه .
لم تكن السكينة التي تغلف المدينة توحي بالغليان الظاهر تحت سمائها وبين ازقتها المصقولة, فجمال هيئتها غطى على ترهل حكامها وتشتت امر شعبها وتمزق رأيهم بأكف الطائفية .
حتى احتقنت ازقتها المخملية بفحيح تشيع ابن الصاحب وتسنن ابن العطار وتفرق اهلها وانشغلوا بالكره ونسيت قلوبهم لون الحب وغلف عقولهم صدأ الجهل فما عادت شوارعها تشهد منافسات المتعلمين ولا عادت دكاكين نساخيها تزخم بالمرتادين.ولهجت السنتهم باللحن .وصارت الفصاحة موضع تندر والبذائة محط اعجاب .وسقط الخليفة تلو الخليفة وفاز ولي عهد تلو آخر.وبكت اشعار الشعراء حزنا وشدت حكم ذوي النهى أسفا.وماجت الحاشية تلو الحاشية
تتصرف بمقاليد الحكم وتدير دفة الامر.ورحل ناصر لدين الله وقدم ظاهر بأمر الله حتى اعتلى المستعصم عرش الخلافة التي كانت تديرها ربات الحجول خلف الستائر الحريرية.
كان محمد الأزهر يجول في قصر منيف تجاوره عدة قصور مسورة بسور بحجم قرية يعيش بين جدرانه بنو العباس الذين ابعدهم الخليفة الناصر لدين الله وحكم عليهم بالإقامة الجبرية خوفا من خيانتهم .
وتحت قباب هذه القصور ولد ونشأ امراء واميرات لعقود ثلاث. كان الازهر احدهم لكنه كان مختلفا عنهم برفضه لحياة الدعة والاسترخاء التي عاشها الاباء والابناء والامهات والجواري تحت سيطرة الناصر وأبنائه. وكان يطلق لفرسه الادهم العنان كلما ارتقاه منطلقا بين غابات الاشجار المحيطة بالقصور وكأنه يستلهم حرية قريش في صحراء الظواهر ويروم تكسير القيود مناديا عبد مناف ليستجمع اصالة محتده ويثور لإنهيار كرامته مذ ولد كعصفور في قفص من الذهب بين الاسوار.اذ لم تكن الاعوام العشر الاولى من عمره قد ادركت بعد هول الشعور بالعبودية ولم يكن قلبه قد تذوق مرارة الحبس اما العشر الاخُر ,فقد كانت بداية تفاقم الثورة في داخله وترعرُع اباءه الهاشمي بين ثنايا قلبه.فما عادت اسوار قصور دار الشجرة تطيق بركان الفروسية والعروبة التي يكتنفها جسده الفتي وقسماته القرشية الحادة وبدأت رحلة تمرده على خضوع ابيه عبدالله بن ابي الفتح العباسي فتارة كان يحث ابناء عمومته على الثورة ضد المستعصم واخرى يخطط للفرار .فلاتهدأ روحه المتوثبة حتى يطلق لها العنان مارقا بين الادغال المسوًرة ولم يكن من عادته الاهتمام بالوافدين على قصور الاحتجاز من باعة وخوليين وبستانيين ونجاريين وبنائيين يرممون ما تلف من جدران واسطح القصور بفعل صولات الطبيعة.
ولو ان ذلك اليوم البغدادي الندي المشذًى بعبق اسواق الكرخ وحدائق الرصافة الذي عطَر جانبا من حدائق قصر الوسن لم يفح شذاه من زلفي حورقناه ذات العينين الشهلاوين والقسمات الاسطورية التي فتنت امير القصر وجعلته يسرح بخياله الى ماوراء اسوار دار الشجرة لما بدأت حكاية حرية نقشتها الاقدار على حجارة باب البصرة.كانت حورقناه ذات الستة عشر عاما رومية الخدين خوارزمية القسمات هندستانية المقلتين بغدادية الثغر .تلف خمارا شفافا على انفها الاشم زاد من روعة حسنها .وتحتزم نطاقا من قماشِ حريري زخرفت عليه شعرلولاًدة بنت المستكفي:
إني وإن نظر الانامُ لبهجتي كظباء مكة صيدهُنً حرامُ
يُحسبْن من لين الكلامِ فواحشا ويصدهُنً عن الخنا الاسلامُ
وهبط قميصها الياقوتي المفتوح الجوانب الى ما فوق ركبتيها تناغمت خيوط زخرفته الذهبية مع سروالٍ أزرقٍ عريضٍ يضيق فوق كعبيها النحيلين المزينين بحجلين ذهبيين يتدليان كالسلسلة اعلى قدميها الصغيرتين المحتذأتين صندلا هنديا من صنع باعة الصنادل من الهنود الذين تغص بهم اسواق بغداد. وغابت وجوه الجواري الترك والاميرات العُرب حين ازاحت بكف عبقري الصنع طرف خمارها الابيض وهي تحدث اميرات القصر وترنو بنظرة آسرة الى الامير العباسي الذي خط مذ هذه اللحظة طريق حياته وشعر أن الحرية آن أوانها حيث لا رجعة الى حياة الطيور الوديعة بين اسوار بني العباس .
ولم تكن خطة الامير الازهر طويلة الامد في تنفيذها إذ كانت همته في التحرر قد الهمت معظم فتية دار الشجرة وعبأت نفوس العاملين فيه لمساعدته ولم يتوان بستانيٌ حمله صغيرا بين ذراعيه ليلعب. ولا بوابا سرح به بين حدائق القصر ليمرح عن فتح ابواب الحرية امامه وتنسيق أمر خطبة حورقناه والتحليق بها تاركا خلفه حياة طولها عشرين عاما واخذ يجوب بحبيبته قرى ارض السواد يرافقهم مسعود الافرنجي وهو خادم في عقده الرابع احب الامير واشرف على رعايته منذ الصغر وهو من رسم له خطة الهرب واختار لها وقتا ملائما حين ماجت شوارع بغداد باللصوص والعيارين والقتلة الذين اطلقهم قائد الجند ابن الدويدار ليضعف شأن الدولة ويمهد لدخول الغزاة وفي خضم غمام الغوغاء التي غلفت سماء بغداد هرب الثلاثة قاصدين ساحل البصرة, تارةً يضمهم بيتٌ شيعي في بساتين واسط مدارةً لحورقناه جعفرية الهوى وإخرى يؤيهم سقفٌ سني في قرى المسيب حبا بالازهر مالكي المذهب.ومرة تلمهم جدران ديرِ قديم في ربوع الحيرة
حتى وصلوا البصرة وتلقفتهم يدي الفقيه ابن الرند الذي اوعز الى رجاله الاشداء بأيصال الامير وزوجه الفتيًة الى حيث لا تصل اليهم ايادي العباسيين .وأبحرت الواصلة وهي سفينة ضخمة يقودها ربًانٌ من ذوي الرأي والقوة تطوف السواحل تلو السواحل تحمل العروسين الهاربين وخادمهما الامين من تكالب الدنيا على ارضهم الى ارضِ بعيدة حيث لم يكونا يعلمان وهما يقطعان الليل بالنهار والشهر بالشهر ان بغداد هُدمت عمرانها وذٌبحت رجالها واغتٌصبت حرائرها واسرت جواريها وانتُهكت قصورها ولم يعد لدجلة فيها مروى لظمآن ولا في بساتينها ملاذا لمسافر .
وكانت حورقناه قد انجبت على متن الواصلة أميرة فاتنة وأميرٌ بهي الطلعة خلال عامين من مسير السفينة التي قطعت بحرالهندوس كما قال الربان البصري أحمد بن حمدان مرورا بخليج بحر القلزم وكانت اصعب مسافة قطعتها الواصلة حين اجتازت أهوال البحر الكهل(المحيط الهادي) كما اسماه بن حمدان حيث عصفت بهم الريح الهوجاء لأشهر .ووصلت عائلة الازهر التي اسسها على متن الواصلة حاملة معها من كل مرفأ ذكرى. كان الامير الصغير المهند بن محمد الازهر قد بلغ عاما وأشهر. بينما بلغت الاميرة نوى التي كان حسنها غالبا حداثتها عامها الثاني .ولم تهدأ روح محمد التي تاقت الى بغداد واحضان ابويه وأخوته كما كانت تتوق الى التحرر منهم سابقا ,فما أن استقر في مدينة ساحلية من مدن رباط الفتح حتى اخذ يستقصي اخبار بغداد واحبتها والتي انهكت روحه عندما تناهت اليه خيانة ابن العلقمي وتحريضهة للشيعة بغضا لدولة بني العباس وتواطؤ أهل السنة أملا بمنصب في دولة هولاكو وتحريض الروم والقبارصة لجيش الغزاة انتقاما من غزوات العرب.كان الازهر يأن تحت وطأة الحمى وهو ينادي بغداد ويناجيها
-أواه يابغداد ألم يرحمك راحم ؟
-اتكالبت عليك الدنيا وخانك اهلك ايتها الحبيبة؟
وكانت انفاسه معلقة بأمل أن يكون اهله قد سلموا من بطش هولاكو لكن انباء بن حمدان الذي أخبره راغما لكثرة استحلافه له أن جميع اهله قد قضوا بسيوف المغول وتناثرت لحومهم على جدران القصوراسلمت روحه التائهة الى بارئها تاركا محبوبته حورقناه التي ذاع صيت جمالها في أرجاء دولة المرابطين .ولماأرادت ان تغلق الابواب امام قادتها تزوجت بمسعود الذي كان عونا لها. واقترحت عليه حورقناه ان يفتح لها مشغلا لتمارس عملها الذي احبته دوما علها تسلو جديها اللذين تركتهما في بغداد ولم يكن لها سواهما والتي آيست لقائهما بعد ضياع مدينتها وقتل اهلها ولعلها تنسى حزنها على أميرها فوافقها الرجل وكان يرأف بحالها ويحنو على ولديها وازدهرت تجارة حورقناه حتى كثُرت الفتيات العاملات في دارها التي اسمتها دار الشجرة وانتشرت النطق والعصائب المنقوشة بخيوط الذهب مكتوب عليها اجمل واعذب اشعار شعراء بغداد .ولم تسلو القلوب بغداد رغم تعاقد السنين وكأنها تورث مع ملامح حورقناه ومحمد الازهر في اصلاب وارحام ذريتهما التي ابقت على تجارة الثياب والعطور وتفرعت في زنقات مدائن المغرب تحكي قصة حبيبين فرا بحبهما من ارض السواد الى ابعد البلاد ولم يكن مصادفة مرور الباحث أيمن حمداني على مشغل انيق فسيح الزوايا انتشرت به الثياب المطرزة والاقنعة المنقوشة يدويا فقد كان دائم البحث عنه وماكاد يجيل بصره في ارجاء المكان حتى لفت انتباهه عينان مارأى مثل جمالهما الا بما قرأه من حكاية حورقناه التي سعى لاعوام يبحث بين سطور الكتب عن حقيقتها فأحس بأنه يقف امام بغداد بكامل زهوها وعنفوانها .تمايلت الفتاة العشرينية برأسها يمينا وشمالا متسائلة
-هل اعجبك مشغلنا؟
أُخذ بالصوت القادم معبقا بعطر دجلة وكروم العنب واعذاق التمر ؟
فسألها مبهورا
-وهل انتِ صاحبته؟
– إنما هو لعائلتنا نتوارثه جيلا بعد جيل,أترى؟
ورفعت الفتاه انمُلا رقيقا من اناملها البرونزية مشيرة الى لافتة ضوئية تحمل اسم المحل وقالت متباهية
-انه نفس الاسم تعاهد اجدادنا وجداتنا على الاحتفاظ به وفاءا لجدتنا الاولى .اتعلم ؟يُقال أنها عراقية
وتبسمت ضاحكة.وان جذورنا تعود الى دولة بني العباس.اذن فنحن أمراء وتباهت الفتاة مازحة وكأنها غير واثقة من صحة اسطورتها وهي تنظر باستغراب الى الشاب الذي اخذ يفرك جبينه مبتسما وهو يردد
– يالغرابة الاقدار ويالسحرها.وذلك حين تأكد له ان المشغل الواقف أمامه هو مشغل دار الشجرة.

(لربما بحثتم طيف حورقناه وأميرها الازهر فوجدتموه خلف جدران شارع الرشيد حيث تتراكم الكتب الباحثة عمن يقلب صفحاتها ليكتشف حقيقة الارض التي يعيش تحت سمائها)بقلمي..خوله البصري . العراق

الإدارة

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى