قراءات نقدية
دراسة نقدية عن قصيدة (المقلُ) / “حميد الغرابي” بقلم: “الناقد عبدالباري المالكي”
دراسة نقدية عن قصيدة (المقلُ) / الشاعر حميد الغرابي
الناقد عبدالباري المالكي
…………………………
الوجل … هو الظاهرة الأسمى في قصيدة شاعرنا الكبير حميد الغرابي حيث السرّ والبوحُ في هواهُ هما فصولُه الباسمة وصفحاته المشرقة ، فإذْ يبعث الوجلُ على الألم فإن دموعه تدفعه الى الشكوى ، وإذْ يحضّ اللومُ على التشاؤم فإن التناسي يكون طريقاً الى التجاهل ، وهو بذات الوقت مصدرُ قلقِه العميق لحزنٍ دفين ،وأسىً ملحٍّ ،وشكوى أعلنت نفسها بلا سابق انذار ، فأقضّتْ مضجعَه لتجعل من غرامه مساراً وجدانياً يبحث فيه عن اطمئنان فؤادِه ، فأحال دمعتَه التي أجرتْها مقلُهُ الى ومضةِ أملٍ نظرَ فيها شاعرُنا ببصيرةٍ ثاقبة من خلال زاويةٍ بيضاء لسنِيِّهِ الخمسين وهو يُضمِر في هواهُ سرّهُ الذي أباحَه وجلُه .
والغفلة … هي الأخرى مصدر قلقِه العميق ، فهي تلك الآفةُ التي تصيب القلبَ ويعمّهُ الحرمانُ ، وشاعرنا لاينظر اليها كمَنْ يتخبّط في الظلام ، فقد أيقن انّ اصدقَ آيات تعبيرِه هي تلك التي يخطّها بيمينه ويبصرها بوجدانه ، لذلك فإنه يعترف أن الخلل في عينيه لِمَا رآهُ من غيابٍ لمعشوقته التي لايجد بدّاً من التبرير لها ، فغدا شعورُه مأساةً احتفل باللوعة والعذاب ، ونهباً لعواصف ملأتْ حياتَه وهزّت اركانَ هيامِه ، وكأنّ أملاً قد تبخّرَ تحت حرارة الشوق والهمّ ، وتلك بلا شك هي تجربة شاعرنا الناهضة في غزليته التي أثارت دهشة الغادي والرائح رغم ابياتها التسعة فقط فهو لايعرف الا ان يكون صادقاً في شكواهُ دون افتعال او كذب لآماله الأثيرية التي يلتمسها في عشق بدأ بخطوة وللآن لمّا ينتهِ ، وتلك هي الصورة الشاعرية النبيلة وهو المعروف بنبلهِ ورومانسيته التي جاس خلالها ابياتَه خائفاً يترقب ، تتجاذبه الحيرة بشواظها وهو يرى راحته الكلّية في احتراقه ، فيفيءُ الى ملاذه الذي اكتحلتْ عيناهُ بتوديعها في جوٍّ من الشعور بالأسى ، يتضمن خلوةَ نفسهِ وهواجسَ احلامهِ التي جعلت قلبَه مضطرباً .
امّا دموعُه التي جرت على مقلتيه فهي الاخرى مصدر زادِه المنشود لبغْيَتهِ المثلى فأقبلَ بشعره المتصل بقلبه لا بعقله ، في شغفٍ بالغٍ ونَهَمٍ ليس له حدّ وهو يبحث عن مقومات ذلك الشغف ليصنع منه مزاجَه الخاص ليتعلّم حكمة نسيان خجلهِ التي فاتتْ عليه وقت ايام صباهُ ، وهنا تكمن مأساة شاعرنا القدير ، فسَكينةُ سنيّهِ الخمسين تكاد لاتخلو من عبق أنثى ، ولان شاعرنا لايقنع بالذكريات فانه يسهو عن صحبه ونصيحتهم الغير مجدية فيحس ان وجوده الخالي قد فاض بعشقه ، وان قلبه الصدئ قد ارتوى منه ، وان حسّه الفاتر قد ماج بعبابِهِ ، وان حياته الهانئة بدات تسير بطريقِ حيرةٍ تنتثر على مدارجه ورودٌ نضرةٌ ، وترفُّ على جوانبه رياحينُ نافحةٌ .
وخلاصة الأمر …ان شاعرنا حرصَ على توظيف موسيقى بحر البسيط لهذا اللون من الحب الذي توهجتْ منه اللهفةُ والعذاب ، وهما مصدر أي شعور ، بقافية ووزن وغرض شعري محكمٍ ، اتحدّتْ جميعُها لتشكّلَ إطاراً يتكون من خبراته النفسية وقدراته الشعرية .
قصيدة(المقلُ)/ الشاعر حميد الغرابي
……………….
يكفي من الشعر ماتجري له المقلُ
والشعر بالقلب لا بالعقل متصلُ
يلومني الصحب لما غبت من عللٍ
مابال حرفك قد ضاقت به السبلُ
هل جف نهرك بالخمسين فافترقت
عن ضفتيك بحور الشعر والجملُ
وقد تناسوا بان القلب مضطربٌ
فحسبيَ الله من صحبٍ اذا جهلوا
قد يضمر المرء سراً في الهوى وجلاً
وقد يبوح بسرٍ في الهوى الوجِلُ
كم ضيع القلب من ترجى مودتهُ
بغفلة عن معاني الحب ينشغلُ
حتى تعلّم بعد الفوت حكمتهُ
من صاحب العيب ينسى وجهه الخجلُ
تبقى ملاذاً وان تنسى فمانسيتْ
عينايَ عينيك بالتوديع تكتحلُ
قد غاب وجهك عن عيني فأحسبهُ
ماغاب وجهك بل عيني بها خللُ
…………..