القصة

دمية السيليكون

دمية السيليكون


قصة قصيرة/ سعيد رضواني/المغرب

         من نافذة الزنزانة أنظر إلى السماء، تدعوني زرقتها إلى معانقة الحرية فأعانقها تحت سماء صيف ولى، حيث أقدامي كانت تحترق برمال شاطئ شهد لقاءنا الأول، أسير جنبها وسط دوائر وهمية يرسمها، بركضه وطوافه حولنا، جروها الذي يحرسها بنباحه علي كلما لامس جسدي جسدها… أنظر إلى عينيها فأرى المياه الزرقاء في لونهما البني تتماوج.. أنظر إلى شعرها فأراه امتدادا للون الرمال الذهبية.. أنظر إلى نهديها فأرى في صغرهما دعوة لمشرطي ونداء للسليكون.
         ونقضي سنة معا؛ هي تفكر في الخطوبة، في الزواج، وأنا أفكر في المشرط، في الحقن، في السليكون، فأحن إلى طقوس العمل… فتدعوني طقوسه إلى حجرة بيضاء تختلط فيها أنفاسي برائحة الكحول والمورفين، وتضج فيها أسماعي بصرير الآلات المتأهبة للانقضاض، وتتخدر فيها أعيني بتأمل الجسد المخدر.
      أسوي الجسد فوق المحفة، وآمر المشرط والحقن وباقي الآلات ببدء العمل فتتكالب شفرته وشوكاتها وأسنتها على النهود النائمة بالوخز والتشريح والرتق.
     أرمق عبر النافذة طائرا يخترق السماء فأرى فيه نذير شؤم، وأفكر أني إذا لم أر طائرا آخر فإن المخدرة لن تفتح عينيها، فأظل أحملق في النافذة إلى أن يخترق السماء أحد الطيور.
وتفتح عينيها وتراني أنظر إليها؛ أنظر إلى الضمادات التي تلتف كأفاع حول النهدين، فأحس بشفقة عليها، لكن بعد فوات الأوان.
      أحملها إلى البيت، فيستقبلني كلبها الذي ظل يكرهني بنباحه العدائي المعتاد… وبعد شهر أراها تقف أمام المرآة رافعة يديها مثل عشتار تتأمل نهديها اللذين أرى في انتفاخهما الجميل دعوة للسفر في مفرقهما… فأسافر في متاهات الجسد الذي يهفو للسفر. أسافر متحسسا، متلمسا جسدها الدافئ، وحين أمر بين فخذيها أرى في انتفاخهما المفرط دعوة لمشرطي ورغبة في شفط الدهون.
     ونقضي سنتين معا؛ هي تفكر في السكن، وأنا أفكر في المشرط، في الخيوط، في الإبر، فأحن إلى طقوس العمل… فتدعوني طقوسه إلى حجرة بيضاء تختلط فيها أنفاسي برائحة الكحول والمورفين، وتضج فيها أسماعي بصرير الآلات المتأهبة للانقضاض، وتتخدر فيها أعيني بتأمل الجسد المخدر.
      أسوي الجسد فوق المحفة، وآمر المشرط والحقن وباقي الآلات ببدء العمل فتتكالب شفرته وشوكاتها وأسنتها على الفخذين بالوخز والتشريح والشفط والرتق.
     أحك حاجبا فأرى في ذلك نذير شؤم، وأفكر أني إذا لم أحك الحاجب الآخر فإن المخدرة لن تفتح عينيها، فأحكه عمدا.
وتفتح عينيها وتراني أنظر إليها؛ أنظر إلى الضمادات التي تلتف كشجيرة لبلابية حول الفخذين، فأحس بشفقة عليها، لكن بعد فوات الأوان.
      أحملها إلى البيت، فيستقبلني كلبها الذي ظل يكرهني بنباحه العدائي المعتاد… وبعد شهر أراها تقف أمام المرآة خافضة بصرها مثل سيريس تتأمل فخذيها اللذين أرى في رشاقتهما دعوة للسفر في مفرقهما… فأسافر في متاهات الجسد الذي يهفو للسفر. أسافر متحسسا، متلمسا جسدها الدافئ، وحين أمر فوق ردفيها أرى في انتفاخهما المفرط دعوة لمشرطي ورغبة في شفط الدهون.
       ونقضي ثلاث سنوات هي تفكر في الأولاد وأنا أفكر في المشرط، في المقص، في المقابض، فأحن إلى طقوس العمل… فتدعوني طقوسه إلى حجرة بيضاء تختلط فيها أنفاسي برائحة الكحول والمورفين، وتضج فيها أسماعي بصرير الآلات المتأهبة للانقضاض، وتتخدر فيها أعيني بتأمل الجسد المخدر.
       ينفلت المقص من يدي فأرى في سقوطه نذير شؤم، وأفكر أنه إذا لم يسقط شيء آخر فإن المخدرة لن تفتح عينيها، فأسقط المشرط عمدا.
       وتفتح عينيها وتراني أنظر إليها؛ أنظر إلى الضمادات التي تلتف كأذرع الأخطبوط حول الردفين فأحس بشفقة عليها، لكن بعد فوات الأوان.
      أحملها إلى البيت، فيستقبلني كلبها الذي ظل يكرهني بنباحه العدائي المعتاد… وبعد شهر أراها تقف أمام المرآة ملتفة حول جسدها مثل فينوس تتأمل ردفيها اللذين أرى في رشاقتهما دعوة للسفر في مفرقهما… فأسافر في متاهات الجسد الذي يهفو للسفر. أسافر متحسسا، متلمسا جسدها الدافئ، وحين أمر بيدي على ساقيها أرى في نحافتهما المفرطة دعوة لمشرطي ونداء للسليكون.
      ونقضي عشر سنوات هي تفكر في مستقبل الأبناء وأنا أفكر في المشرط، في الملاقط، في السيلكون، فأحن إلى طقوس العمل… فتدعوني طقوسه إلى حجرة بيضاء تختلط فيها أنفاسي برائحة الكحول والمورفين، وتضج فيها أسماعي بصرير الآلات المتأهبة للانقضاض، وتتخدر فيها أعيني بتأمل الجسد المخدر.
        أحمل المشرط بيدي اليسرى، فأرى في ذلك نذير شؤم، وأفكر أني إذا لم أحمله باليمنى فإن المخدرة لن تفتح عينيها، فأعيده إلى مكانه وأحمله مرة أخرى بيدي اليمني.
وتفتح عينيها وتراني أنظر إليها؛ أنظر إلى الضمادات التي تلتف كثعابين حول الساقين، فأحس بشفقة عليها، لكن بعد فوات الأوان.
       أحملها إلى البيت، فيستقبلني كلبها الذي ظل يكرهني بنباحه العدائي المعتاد… وبعد شهر أراها تجلس أمام المرآة طاوية ركبتيها مثل حورية تتأمل ساقيها اللذين أرى في رشاقتهما دعوة للسفر في مفرقهما… فأسافر في متاهات الجسد الذي يهفو للسفر. أسافر متحسسا، متلمسا جسدها الدافئ، وحين أنظر إلى وجهها أرى التجاعيد قد بدأت تزحف عليه، أنظر إلى عينيها فأرى في لونهما البني عبء السنين… أدرك أن أيقونتي الآدمية في طريقها إلى الترهل، فأرى في هذا الترهل دعوة لمشرطي ونداء للخيوط والإبر.
        أفكر في المشرط، في الخيوط، في الإبر، فأحن إلى طقوس العمل… فتدعوني طقوسه إلى حجرة بيضاء تختلط فيها أنفاسي برائحة الكحول والمورفين، وتضج فيها أسماعي بصرير الآلات المتأهبة للانقضاض، وأعيني فيها تشفق على الجسد المخدر.
        أسوي الجسد فوق المحفة، وآمر المشرط والحقن وباقي الآلات ببدء العمل فتتكالب شفرته وشوكاتها وأسنتها على الوجه المتغضن بالوخز والتشريح والشفط والرتق.
أجمل الوجه فيترهل البطن. أجمل البطن فتترهل الأرداف.          أجمل الأرداف فتترهل السيقان، أجمل السيقان فيتغضن الوجه… صراع دؤوب بين المشرط والزمن في غرفة بيضاء شهدت عبث جراح بجسد امرأة كلما فتحت عينيها أغلقهما البنج من جديد، وكلما أغلقهما البنج تكالبت عليه شوكات الحقن وشفرة المشرط والإبر بالوخز والتشريح والرتق…
            أسوي الجسد فوق المحفة، و آمر المشرط والحقن وباقي الآلات ببدء العمل فتتكالب شفرته وشوكاتها وأسنتها على كامل الجسد بالوخز والتشريح والشفط والرتق…
             يائسا أحملها إلى البيت، فيستقبلني كلبها الذي ظل يكرهني بنباحه المعتاد… ويمر شهر وتظل ترفض النظر إلى المرآة… وأظل أنا أرفض السفر في متاهات الجسد الذي لا يهفو للسفر… الجسد الذي كلما نظرت إليه رأيت فيه دعوة لمشرطي ونداء للخيوط والإبر.
          أفكر في المشرط في الخيوط في الإبر، فأحن إلى طقوس العمل، فتدعوني طقوسه إلى حجرة بيضاء تختلط فيها أنفاسي برائحة الكحول والمورفين وتضج فيها اسماعي بصرير الآلات المتأهبة للانقضاض، وأعيني فيها تشفق على الجسد المخدر.
           أجلس قبالتها على كرسي أحاول موازنته على قائمتيه الخلفيتين وأنا أنظر إلى الضمادات التي تلتف كأفاع حول كامل الجسد الذي يبدو مثل مومياء فرعونية. أسمع نباح كلب فأرى في ذلك نذير شؤم، وأفكر أني إذا لم أسمع النباح مرة أخرى فإن المبنجة لن تفتح عينيها، فأظل أترقب سماعه من جديد، يخيم صمت رهيب في فضاء الغرفة ثم ينبعث فجأة نباح غريب، نباح كأنما هو آت من زمن بعيد.. نباح توسمت فيه خيرا، نباح ظللت أصيخ السمع إليه وأنا أنتظر أن تفتح عينيها…
         ولم تفتح عينيها… أناديها فلا تسمع. أخضخضها فلا تتحرك. أمرر يدي فوق الجسد متحسسا، متلمسا، مرتعشا وإذ تسري برودة الجسد في يدي أدرك أن لقاءنا ذاك كان الأخير.
أقف مرتعشا أتأمل الجسد المسجى… الجسد الذي رأيت في سكونه جرما وأسفا وندما، الجسد الذي رأيت في رحيله رحيلي، الجسد الذي جعلني أحس بالشفقة على نفسي من الوحدة والأسر، لكن بعد فوات الأوان.
       أفكر في الأسر، فتدعوني طقوسه المميتة إلى حجرة باردة، إلى حيث أجلس أنا الآن بين جدران يجتاحني فيها على الدوام نباح كلب غريب كأنما هو آت من زمن بعيد، وتؤنسني فيها دمية من الألياف والسليكون، دمية تكاد تسخر من رغباتي المستميتة في التوازن على القائمتين الخلفيتين للكرسي الذي لا ولن يتوازن أبدا.
       .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى