رقصة أخيرة بقلم الأستاذ هاني الشوبكي
رقصة أخيرة
الكل يرقص على أنغامه الخاصة به و إيقاع ضربات قلبه و بالروح و العين و الجسد .. من منا لم ينتابه هذا الشعور بالرقص و إن لم يكن بجسده فبعينه أو بقلبه أو بروحه أو حتى بأصابعه و إيقاع أقدامه .. الكون كله يرقص بكل ما فيه . فهناك من يرقص فرحا و من يرقص حزنا و أيضا من يرقص مرضا ففي النهاية الكل يرقص مع اختلاف الأنغام و الإيقاع و العازفين ….
و ها هي امرأة أخذت منها الدنيا ما يكفي لتصبح طريحة الفراش .. امرأة في الأربعين من العمر أفنت شبابها في خدمة زوجها و أولادها و ضحت بكل شئ من أجلهم . جعلت من نفسها خادمة كـ بقية النساء في المجتمعات الشرقية .. دائما تضحي بحجة الحفاظ على البيت و الأولاد برغم ما تلقاه من معاملة سيئة مخزية من زوجها .. الذي اعتبر نفسه سيدها يتحكم فيها كما يشاء بعيد كل البعد عن تعاليم الدين .. جعل منها مجرد آلة تطعمه و تتفانى في خدمته و لم يكتفي بذلك فقط بل جعل منها مجرد دمية تتحرك كيفما يشاء هو .. و بجانب هذا كله هي امرأة غانية في الفراش كما يريد ينهش من جسدها تكرارا و مرارا كفريسة مستسلمة لذئب بشري أعمى القلب و البصيرة دون مراعاة مشاعرها و احساسها .. و عندما مرضت لم يعيرها أي اهتمام بالعكس أصبح يتقن التعذيب و التجريح بكلمات لاذعة من السب و الشتائم و الأغرب من ذلك شماتته في مرضها .. كيف لمثل هذا الزوج الذي لا يعتبر رجلا من الأساس أن يصل لهذا الحد إلا إذا كان مختل عقليا و نفسيا و كم يسبهه الكثير من الرجال هذه الأيام الذي يظنون أن رجولتهم فقط هي ما بين أفخاذهم و أصواتهم و أوامرهم …
هي ما زالت تتألم من المرض و تقاوم جلدات التعب و جلدات النفس حتى جاء اليوم الموعود في ذاك اليوم بعد منتصف الليل و السكون يخيم حول المكان استيقظت من نومها متهالكة منهكة تمام استجابت لنداء الوجدان الغامض بداخلها و كأنه صوت العمر يناديها و شبابها يلهث وراءها .. قامت برفع الغطاء و حاولت النهوض متكأة على السرير و رأسها منحنية إلى أسفل تستعد للنهوض الكامل لتقف وقفة مستقيمة أمام المرآة قامت مرتعشة بخطوات ثقيلة كخطوات الزمن و كأنها تحبو ببطء شديد و بحذر فقير .. اتجهت نحو المرآة ثم رفعت رأسها و كأنها لأول مرة ترى وجهها بعد غياب عن نفسها لسنوات .. و قفت في ذهول تتأمل ملامحها و تتحسس بأصابعها البائسة كل زوايا وجها .. تتأمل بتمعن شديد و كأنها فقدت جزء منه .. حتى قامت برفع الوشاح من على رأسها و كانت الفاجعة أكبر .. فالفتاة التي كانت تتمايل بشعرها الأسود الطويل ليل نهار و التي كانت تقوم بتهذيبه كل يوم و تتمختر به و هو ممتد كالليل على ظهرها حتى خصرها … ها هو كأنه لم يكن .. فالمرض لم يترك لها أي شئ حتى دمره و استوطن فيه … صاحت بصرخة موجعة و لكن صرختها لم يسمعها غيرها لأنها تصرخ بداخلها فقط .. الدموع الساخنة كالبركان الثائر تحرق خدها … و العين أصبحت باردة بلا غطاء بلا رموش .. في كل دمعة متساقطة ذكرى قديمة تشق لنفسها نفق في حديقة أوجاعها … أخذتها الذاكرة الحاضرة الغائبة إلى مشاهدة نفسها في المرآة و كأنها تشاهد فيلم صامت كالسينما الصامتة مجرد حركات بدون صوت .. تألمت و توجعت حتى اتسعت حدقة عينيها و نظرت بنظرة ثاقبة نحو نفسها في المرآة و استمعت لصوت الروح يناديها انجذبت إلى الصوت و أخذت الراحة تنبعث بداخلها شيئا فشيئا … فابتسمت و يا ويل العذاب فوق شفاه تبتسم و كأنك تبتلع سم الحياة كترياق لأوجاع الدنيا … قامت تتبع مفاتن جسدها و كأنها فتاة مراهقة ما زالت في مرحلة النضج .. تلتف بحركة نصف دائرية يسارا و يمينا أمام المرآة ثم وضعت يديها على خصرها و قامت تهتز ببطء شديد و تتحرك حول نفسها فأصبحت كعروس البيانو أو آلة موسيقية تتحرك بحركات متناسقة متناغمة … راحت تلتف كثيرا و تتحرك حتى دخلت في غياهب الرقصة الأخيرة لها .. ترقص كراقص التنورة و كالدرويش الذي يرقص بدون وعي … ترقص و ترقص حتى سقطت ملقاة على الأرض و كأنها تلقت رصاصة من بعيد اخترقت قلبها بل و هي رصاصة الوداع … سقطت كوردة اقتطفت من حديقتها و باتت متسولة تحت أقدام الدنيا … لقد تركت الدنيا بعد أن اغتنمت منها الدنيا الكثير من الأحزان و الآلام …
نعم إنها الرقصة الأخيرة كالدرويش الذي برقص على أنغام الذكر و العاشق يرقص على أنغام الفؤاد و الظالم يرقص على آنات المظلومين و الذئاب ترقص على جثث الأطفال و الشهداء . الكل يرقص حتى العابد لله الواحد الأحد يرقص بداخله فرحا عندما يسجد بين يدي الله فتتسارع ضربات قلبه و تتسابق فيما بينها للتسبيح ..و برغم كل أنواع الرقص واختلاف الأنغام و العازفين إلا أن لكل منا رقصة أخيرة سوف تأتي يوما رغما عنه .. فيا سعد من جاءته رقصته الأخيرة و هو في طاعة الله سواء كان ساجدا أو راكعا صائما كان أو ذاكرا .. في النهاية هناك رقصة أخيرة .
#هاني الشوبكي