زفرة في حبّ الوطن قراءة في قصيدة أماني محمد “أم المعتصم ” بقلم الكاتب: بولمدايس عبد المالك الجزائر
زفرة في حبّ الوطن قراءة في قصيدة أماني محمد “أم المعتصم “
الكاتب بولمدايس عبد المالك
حين يبكى القلب وطنه شوقا و لهفة في لحظة استغراق و هيام تخرج الحروف منه باكية كغيمة حبلى ، متأججة كنار محتدمة ، تأتي على الأخضر و اليابس من القلب و الرّوح ..و يصبح مجرد مسّ أو لمس ثرى الوطن سلوى و السّلوى كل ما يسلي النّفس عن الكرب والهموم والأحزان، وينسيها جروحها و كروبها و كأنّ تراب وطنها تدثّر بالقداسة و البركة فبمجرد لمسه و التّمسح به تنزاح الأتراح و تنجلي الهموم و الأحزان و يعم السرور و الطمأنينة أرجاء النّفس .
عندما تنقلب صورة الوطن الآخر(المُستقبِل) و يذوب بتفاصيله في بوتقة الوطن الأمّ فإنّه يضحى كلّ جزء فيه من أرض و سماء و هضاب و تلال و صحاري و غابات و بحار و وديان و غدران نسخة طبق أصل الوطن الأمّ المتربّع على عرش القلب والمتحكّم في نياط الروح و مجاريها .. فالأوطان و إن تشابهت في معالمها و تضاريسها فيبقى للمنزل الأوّل حنين خاص و طعم لا يضاهيه شيء آخر في الحلاوة و الطّلاوة.
فهي ترى وطنها في تحسّسها لنبضات قلبها حين تؤزها و رياح شوقها و تهزّها هزّ عنيفا و تقوى رغبتها و تشتدّ إرادتها لرؤية وطنها ؛ و هي تراه ثانيا في لهفة كلّ مشتاق تمسّحت نفسه بثراه و ذابت مهجته و هو يظفر بلقاء فتسمو روحه تعانق الأفلاك في السماوات ..و التعبير بالرجاء فيه ملمح نفسيّ لافت ..فالرجاء من الأضداد فهو يحمل الأمل و في نفس الوقت يدلّ على الخوف ..فأملها في رؤية تقاسيمه مشوب بخوف ذلك أنّ هجرة الأوطان طويلا تجعل بعض التخوّفات و الهواجس تتسلّل إلى النّفس لكن الغلبة في النّهاية هي للأمل أي الجانب الإيجابي في النفس .
المقطع الأوّل:
سـلـوى لـروحـي أنْ أمــسَّ ثـراكا
أنَّــــى اتّـجـهـتُّ فـــلا أرى إلاكـــا
فــي نـبـضةٍ لـلقلبِ حـين يـؤزّني
شـوقـي إلـيـك ويـرتـجي رؤيـاكا
فــي لـهـفةِ الـمُشتاقِ مـن زفـراتهِ
عــنــد الــلّـقـاﺀ يـعـانـقُ الأفــلاكـا
المقطع الثاني:
و في غمرة الأشواق و لهفة الاشتياق يتمثّل لها وطنها كشخص مادي له قلب و سمع و عقل فنراه تستعمل حرف النّداء أملا في إجابة شافية تطفأ نيران الشوق المتأجّجة ..و كفى بالوطن معشوقا فها هي تبثّ له أسرار هواها الهائمة المكنونة في مهجة القلب و لا تخفي صبابتها لوطنها و تيه أفكارها و تناغم نجواه بنجواها فكأنّهما صنوان واحد .. فلا يسعها و الحال كذلك إلاّ أن تسيل دموع عينيها كسحب باكية راجية منه الإشفاق و الترفق بحالها و تشتدّ حالتها و تتفاقم عند كلّ غياب و شبه جفاء .
يـامـن إلـيـكَ أبــثُّ أسـرار الـهوى
فــي الـقلب تـسكن هـائما بـهواكا
فـارفـق بـصـبٍّ تــاهَ فــي أفـكارهِ
ويـبـثُّ فــي نـجـواهُ مـن نـجواكا
سـالتْ دموعُ العينِ مثل سحائب
عـنـد الـغـيابِ فــلا أطـيقُ جـفاكا
المقطع الثالث:
حذفت حرف النّداء “يا” عن “وطني” للدلالة على أنّ الوطن َ متجذّر في سويداء قلبها ، متحكّم في حركات روحها و سكناتها ..فكأنّها تراه رأي العين و تتحسس نبضاته و ترتوي من غيماته ليستحيل حبّ وطنها رشفات من ذلك الجدول بل الجداول الطافحة بالرواء و البركات ..و على سيرة “أم مريم” عليهما السّلام و سننها تعلن للوجود نذر قلبها و تشهد على نذرها ذاك دموع العين التي جعلتها عربون فداء لوطنها و شواهد عيان عن ولائها له…
و تجعل نبض الوطن في لمسها لحجره المبارك كعلامة حياة و رمز قداسة فتهوي بقلبها المنقاد الموتور لتقبّل ثراه غازلة من زرقة سمائه وشاحا تتشح به ..و هذا تشبيه عقليّ بليغ جدا إذ يجمع بين أمور ماديّة و أخرى معنوية و عقلية و مثل هذا الجمال لا يجتمع إلاّ لضليع متمكنّ من اللغة العربية التي لا ترخي زماما إلاّ لعاشقيها ز خاصتها. عجبا فمجرّد لمس بسيط لحجر من أحجاره إلاّ و انقلبت نفسيتها من النّقيض إلى النقيض و أضحت عبدا مطيعا مأمورا لا حول له و لا قوّة ..
و في قمّة ثوران حبّها و هيجانه تلتفت إلى حبييها الغائب عنها الحاضر في شغاف فؤادها لتمزج بين حبيبين غائبين تناغما و اتّحدا فصار روحا واحدة لتصوغه شمسا مشرقة لا ترى النّور و الإشراق إلاّ بعينيه الذي استحالا عينيها التي تبصر بهما الأشياء و الحقائق…تشبيهات بلغت أوجّها من البلاغة و الرُواء و زاد في بهائها المنقطع النّظير روحها الصادقة و وفاءها الممتد و حبّها اللدني الذي لا حدود له و لا قيود ..
وطني رشفتُ الحبَّ منك جداولاً
ونــذرتُ قـلـبي والـعـيونَ فِـداكـا
لـما لـمستُ بـذي الـحجارةِ نـبضةً
قَـبّـلتُ تـربـكَ واتّـشـحتُ سَـمـاكا
وطني تَجلّى في الحبيب فصغتُهُ
شـمـساً وفــي عـيـنيّ ذي عـيناكا
عاطفة جيّاشة أخالها كبركان هائج مضطرب سلب الظنون و الأوهام فأضحى العشّاق و المحبّون من ضحاياه و رهائنه أو كنيران محتدمة أتت على الأخضر و اليابس ..
الكاتب / بولمدايس عبد المالك
الجزائر في 26.01.2021