إشراقات أدبيةإشراقات متنوعة

سمكريّ الهواء – العليم بكلّ شيء” لسرجون كرم – تراث شعريّ عربيّ في ثوب معاصر

 

 

 

“سمكريّ الهواء – العليم بكلّ شيء” لسرجون كرم – تراث شعريّ عربيّ في

ثوب معاصر

بقلم / د. ديزيريه كايزر/ألمانيا (متخصّصة في الدراسات العربيّة والترجمة)

ديوان “سمكريّ الهواء – العليم بكلّ شيء” والصادر عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر في عمّان/بيروت هو الديوان السادس للشاعر والأكاديميّ اللبنانيّ سرجون كرم، أستاذ اللغة العربيّة وآدابها في معهد الدراسات الإسلاميّة واللغات الشرق أوسطيّة في جامعة بون الألمانيّة.
يصطحب سرجون كرم في ديوانه القارئَ إلى عالمه الفكريّ ويطلعه على دوره الشخصيّ كشخصيّة فاعلة في أرض الشعر العربيّ المعاصر. وهنا يقوم الشاعر بمحاولة خلق التأثير من خلال استخدام استعارات قصيدة النثر وقصيدة الغموض وغيرها من الأجناس الأخرى، وذلك للتعبير عن نفسه وعن دوره كصانعٍ للشعر ومدشّنٍ لخطاب حوله. ففي هذا الخطاب لا يتمّ تجاهل أيّ كان، بغض النظر عن منشئه أو طبقته الاجتماعيّة، كما لا يوجد فيه أيّ فضاء للالتباس حول رؤيته للعالم وصورة الذات الإيجابيّة والسلبيّة.
يعكف الشاعر في ديوانه منشغلا بدوره الخاصّ في الحاضر وفي عالم الشعر، ويقود القارئ إلى عالم شعريّ يتواجه فيه مع الاضطرابات السياسيّة والانهيار والبحث عن الهويّة والوطن والوضع الراهن للقصيدة العربيّة.
في القصيدة الأولى من الديوان “للمنبوذين” تتمّ مخاطبة أولئك الذين استسهلوا على أنفسهم خيانة أوطانهم وتحطيم بعضهم البعض. فالشاعر يتوجّه بشكل لا لبس فيه إلى هؤلاء المنبوذين اجتماعيّا وسياسيّا: ” دعوني أكتب الشِّعر باللغة العاديّة/وأسأل هذا الشّعبَ البكّاءَ/ على امتداد خريطة مقعّرة/من غضب السّماء:/هل لديكم في قوافلكم/مكانٌ لبحرٍ/يلعق الدّماءَ عن يديه/ويعضّ خاصرته/مثل كلب أُطلِقت النارُ عليه؟/هل لديكم/- أيّها المنبوذون من الموتِ –/امرأةٌ خاليةٌ من لوثة الشّعراء المنتحرين/تتأمّل بإعجاب أصابع قدميها كلّما/استيقظت من نوم/تحصي بها الطّيور وألوان الأزهار في الحديقة؟”
وتنتهي القصيدة بسؤال رافض لكلّ هؤلاء: “هل لديكم في عرباتكم/ – أيّها الأغبياء – /وطن آخر تختارونه/كي تقتلوه/وتأكلوه؟”. فبهذا السؤال الختاميّ يبيح الشاعر مبرّر صورة الشتم والاحتقار.
بهذا المفهوم انقلبت صورة المنبوذ في سياق القصيدة، إذ أبطل الشاعر دلالتها الأولى المتقاطعة مع الخطاب السياسيّ اليساريّ النقديّ، الذي ينظر إلى المنبوذين من الثروة الاجتماعيّة والاقتصاديّة على أنّهم الفئة غير القابلة للمسّ بها. فهؤلاء المنبوذون الأخيرون هم الطبقة المسحوقة التي تستحقّ التضامن والتأييد لاستعادة حقوقها.
أمّا في القصيدة الثانية التي تحمل عنوان “أحبّ حكايتي كما هي”، يوازن الشاعر بين صورتين تظهران مسارا هويّته وأسلوب حياته:
” كان جميلاً/لو أنّي استطعتُ قراءة قصّة “الأمير الصغير”/إلى ما بعد الصّفحة العاشرة/وجميلاً كان/لو أنّي عاشرت نساء الأرض بحجّة/أنّني شاعرٌ/والأجملُ لو كنت أطرب للسّلام/وما فتحتُ الكتب التي تعلّم منها نوستراداموس/ورأيتُ المآسي القادمة”.

ففي هذه القصيدة يوازن سرجون كرم بين طريق الإنسان الفرد المكتفي بالعلاقات والمعارف التي تمّت إقامتها وبين طريق الإنسان الفرد الذي يشعر أنّه ينتمي إلى وطن له نشيد ينغمس في حكاية الوداع والرحيل ويعيش اغترابه الخاصّ به:
” كان جميلاً/لو أنّي نظرت إلى العَلَم/ورأيتُ وطنًا لا وحوشًا/ وجميلاً كان/لو أنّ النّشيد الوطنيّ يعزف على وتر الطّمأنينة عندي/ولا ينشر نشاز التّوتّر/في كياني،/والأجمل/لو لم أغادرْ”.

يتمّ ضبط النغمة البلاغيّة في قصائد سرجون كرم من خلال مجموعة متنوّعة من الصور المركّبة والشعارات المعاد إنتاجها، والتي تتميّز بأسلوب خاصّ جدّا يمكن ملاحظته والتعرّف إليه بوضوح. فهو يُظهر وعيًا عاليًا بالمكمّلات التصويريّة وبالرمزيّة وبنماذج التراث الشعريّ العالميّ بالإضافة الدوافع المحبّبة لدى الشعراء والرومانسيّين والمعاصرين.
في قصائد سرجون كرم لا يوجد أيّ مكان للندم أو الأسف، على الرغم من كلّ الاتهامات والإشارات فيها. فعلى العكس من ذلك، هناك مقياس دقيق للحزن وللعاطفة المحميَّين، اللذين يفصلان تصوّرات الشاعر عن عالمه، غير أنّهما بإمكانهما جمعها وتوحيدها معًا.
يكتب سرجون كرم قصائده بالطريقة نفسها لقصيدة النثر، ولكن بإيقاع معجميّ مقفّى ومتقطّع يكاد يكون غير مرئيّ. وتتميّز قصائده بالتوازنات التركيبيّة مع عودة إيقاعيّة طفيفة، من دون مراعاة للتصنيفات التي قد يصفها الآخرون. كما تتنوّع هياكل قصائده، بحيث تسير القصائد الطويلة إلى وحدة عضويّة، وتتعدّى المقاطع الشعريّة إلى قصائد قصيرة وقصائد تشبه الأغاني التي تتعدّى بدورها إلى مقاطع شعريّة بأسلوب الهايكو، لتنتهي بقصائد بين السطور ذات بنى مختلفة.
ويمزج الشاعر بين الأجناس والأساطير والأزمنة والشخصيّات الدينيّة والتاريخيّة والأسطوريّة مثل أورفيوس وزرياب والعطّار والروميّ والخضر. فمن خلال هذا التنوّع في الصور والأجناس والأزمنة والأساطير المقترن بالإعتراف بعدم المعرفة “فلا أعرف ماذا أفعل بالحروف/ إن انقشر أبو الحنّ عن شكل القصيدةِ/وخرج الطّاووسُ من أنفاسها/وعادا/إلى/السّماء”.

يتمّ خلق ارتباك متعمّد وذلك لخلق مقاربة بين كل ما هو مخزون في ذاكرته المباشرة والثقافيّة على حدّ سواء: بدءًا من التراث الشعريّ العربيّ، شرقًا وغربًا، القديم والحديث والمعاصر، الفكريّ والجماليّ. 

بهذه الطريقة يفصح سرجون كرم عن شعر يتميّز بكل وضوح عن غيره من الشعراء، ويتناغم مع روح الشعر الشرقيّ ولغته الشعريّة، ويحاكي عالم أفكاره، ويصبّ في شكل معاصر. هذا هو الحال على سبيل المثال في قصيدة “برج بابل”: 

“ونحن صاعدون برجَ بابل
يتهامس الناس فيما بينهم:
سئمنا من نجمة تضيء على الطّريق خلفنا
فأطفأناها
وأشعلنا قناديل الزّيت.
يقول لهم النّاجون من قنبلة هيروشيما:
كنّا أطفالاً يومَها
وبقينا…
لأن – حين تخلّت السّماءُ عنا –
توقّف الزّمن حينذاك.
نحن كالله لا شيءَ يشبهنا
فمحال لأحد أن يتّخذنا زوجًا
وأولادنا كصوت التّشويش في كتب التّاريخ
وضمير البشر.
لدينا ما ليس للآخرين…
لدينا ابتسامة الحيرة ونحن نحدّق في الجدران
وجلود الذّكريات تتدلّى منّا
ونسمع الأصوات والهمهمات في الصور.
***
ونحنُ صاعدون برجَ بابل
وكلٌّ يقطف من عمود الملح
وعمودِ النارِ ورقةَ فتواه
في أشكال الحكمِ
ومسألة الجندرِ وإبرِ تكبيرِ الشّفاه
والشّاعراتِ الجميلاتِ على الفيسبوك
واللايكاتِ فيهنّ…
أقول لنوح: لا ذنبَ لك
سوى أنّك في فلككَ ربطتَ منقار نقّار الخشب”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى