شوق الأبناء وبر الأباء بقلم : د. عبد المجيد محمد باعباد
(شوق الأبناء وبر الآباء)
الكاتب الدكتور /عبدالمجيد محمد باعباد
في دعاء الأبرار ثناء عبادة الشكر وسرد طاعة الذكر..
آهِ كم أشتاقُ إلى من لم أرهُ مرةً واحدةً ! في حياتي رحمك الله يا جدي ، فإني كم أشتاقُ إلى رؤيتك يا جدي ، رحلت عنا ونحن لم نولد بعد ، وغادرت حياتنا ونحن لم نأتَّ بعد هذا الوجود ، أقول دئمًا وأبدًا الحمد الله على كل حال ، فإني كل حين لا أسخط من حكمك يا إلهي ، بل أرضى بقدرك ومؤمن دائمًا بقضائك الماضي والأتي ، ولكن يا إلهي تذكرتُ شخصًا في حياتي لم أرهُ مرةً واحدةً ! منذ نعومة أظافري جئت إلى هذه الحياة من أصل ماء صلبه خرجتُ إلى الدنيا ؛ ومن سلالة مائه الطاهر المبارك نشأ هذا الجذيل المحك ، وقد حكت لي بعض الشيوبة ممن كان يعرفه من أهل القرية وصفوا لي شكل خلقته وحكوا لي عن نبوغ علمه ورسوخ فهمه وقال: لي الكثير منهم أني أشابههُ تمامًا في شكل خلقته وفي ملامح وجهه أشبهُ أيضًا في الفنطة والحذقة ، وأنا لا أدري بهذا من ذاك مما جعلني أتخيلك يا جدي وأرسم شكلك الأدمي في خيال عقلي أجمع شتات هيئتك الطاهرة على لوحات خلدي المعتمة أرسمك بين آونة وأخرى بألوان خيالية خالية من صبغة الذهن وكلما رسمت ملامح وجهك في نظري لا أجد في ذهني ما يعيد الذكرى إليك سوى اسمك الذي سميتُ به وقد سماني الوالد الحبيب باسمك عبدالمجيد وحياة عمرك لم يدركها أبي قبلي أيضًا لم يرَّ والدي لك لقطة واحدة أو حتى صورة موثقة من فليم حياتك السابق في حلقات الزمان السالف لم تكن الكاميرات موجودة بعد.. نعم لقد عاش الوالد الحبيب يتيم الأب ولكنه لم يعش يتيمًا من حظه بالعلم والأدب وقد انطبق عليه مفاد قول الشاعر:
ليس اليتيم يتيم الأم والأب
إنما اليتيم يتيم العلم والأدب
حقًا انطبق فيك قول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
ليس اليتيم الذي قد مات والده
إن اليتيم يتيم العلم والأدب..
كيف لا وقد نشأت في قرية خوبر راضعا من ثدي علومها، ومستظلا بسمائها وشارباً المعارف من أقداحها الدينية رشفت رشفة الزهد والتواضع من أكواب الدين تغترف فقهًا وعلمًا وخلقًا جمًا أجل ليس أنا أنت الذي أخذت من فنون اللغة بنصيب ورميت في أغراض التعاليم بسهم مصيب فركضت في مجالها وأبرزت طور طروسها معرباً لنحوها،منتقدًا أدبها،موضحاً أنواعها وأفعالها، وميزاً مبانيها مفصلًا ساسها وأجناسها وأحكمت ضروب العبارة ونظمت قياسها قبلي تفردت بها وذاع صيتك بين الورى وسمعتُ من الملأ أنك عين أعيانها وأستاذ فتاها وخطيب محافلها كلما أتاها لا يتوقف عليه من أغراضها غرض ولا يضيع لديه منها مفترض، إذا ذكرت الغرائب قلت أنا لها ولو تعلقت الغوامض بالثريا لنلتها نعم تغلغلت في شعابها، وتميزت على نظرائك بحل رموزها وتسهيل صعابها فجاء ابنك هذا مثلك يا أبي أعشقها وأحبها وأموت فيها وكأنها الجينات يا أبي نعم لا أقول لا وقد رضعت من در العلوم كهلا ووليدا،وحويت جل أنواع المفاخر طارفاً وتليدا وعلمت بمفردات اللغة فرعاً وأصلاً، وسابقت مضمار الدعاة منذ كنتُ طفلاً. وحزت المرتبة الثالثة على مستوى وطنك في مرحلة الثانوية العامة كنت من أوائل الطلاب نعم لا أقول لا وأنا أكثر من يجالسك أبي الحبيب دائمًا أكثر شخص يسألك آنذا أوجه لك الأسئلة في القرآن وفي علوم اللغة وفي علوم الدين والشرع ونتدارس يوميًا معارف الحياة والدي الحبيب أقول حقًا لا تمر بي ليلة إلا وأنت قريبٌ جدًا إلى قلبي كقرب ريح القميص من أنف يعقوب وكلما أحدقتُ النظر في حياتي رأيتك أمامي شخص العلم قائمًا ورأيتك كل حين أمام ناظريَّ سلوك الخلق ماثلا واللسان الأدب قائلا ورأيتك إلى دين الله داعيًا مخلصًا ..وأنى التفت هنا أو هناك شعرتُ بحجم وجاهتك الاجتماعية وفخرت كثيرًا بحجم مكانتك الموقرة في قلوب الناس جميعًا أينما ذهبت وأينما حللت اسمع لك الصيت الجميل والثناء الحسن من أفواه الناس كافةً يكفيني هذا إن لم يكن فضلك سابقٌ عليَّ فإني كلما سمعتُ مثل ذلك أعير قول شاعرٍ معاصر وأقول:
أعيرٌ أذن المجد أجمل همسةٍ
هذا أبي يا مجد فلترني أباكا
نعم أحسن الله إليك والدي الحبيب وأطال الله بعمرك وأبقاك الله بيننا نجمًا ساطعًا، وبدرًا مفذًا أفلاكنا بالنور الباهر وأدامك بيننا قمرًا مشعًا حياتنا بالخير الوافر كما عهدناك هكذا والدي الحبيب ما أكرمك بذلاً وعطائًا ، وما أفقهك شرعًا جامعًا ، وما أثقفك علمًا زاخرًا وما أروعك لسانًا ناطقًا ،وما أبلغك صمتًا صادقًا مدققًا فصاحة الحديث والكلام الفصيح واللغة تنساب من شفتيك دائمًا معتزًا بدينك في زمن ثلمت فيه دعاة الدين أمثالك ما أحلمك رجلًا صبورًا قنوعًا بما تملك راضيًا لغيرك ما يحبوا في هذه الحياة لا تحقد ولا تحسد ولا تغبط حتى ..كما رأيتك ذا شغف وأبصرتك كل حين عبدًا طامعًا مشمرًا تحصيل ربح الفضل والعبادة ، وتركت فضل العيش وفضول الناس لما رأيت في تركهما حظ السعادة،وعفوت بعقلك المحنك مكائد الحياة وجانبت حيلها المردية لأنها دار مهرية في كل بكرة وعيشة حبلى جنين نوائبهما في مشيمة المشيمة، ونظرت إلى الدنيا بنظرة حقيرة مُدَّنية لأنها دنيا دنية وكلما أطمعت لنفسي العيش ذكرتني إنها دار فانية وكلما ابطأتُ السير أخذت بيدي وقلت لي بصوتك اللغوي الجميل هيا بنا يا بنيَّ إلى المسجد وكلما يأست من هذه الحياة أو داهمتني أي خيبة كؤدة هونتها عليَّ بلطف نفسك المؤمنة تقول لي دائمًا كلمات مطمنة يا بني كل ما في هذه الدار تأتيك وتنفذ بين حين وآنية وبإمكانك يا والدي أن تدرك مآلها بحسن عمل وإخلاص نية فهي دار لك فيها ما تشاء بكف منية جانية ولكن لا تنسى يا بني أنها دار منية مُجنية فلاتشغلنك بمتاعها الزائف وما زخارفها تلك تفنى يا بني كفى بالمرء فيها إن لا يفرط في دينه ما أجملها من عبارة ما أعذبها من كلمة تقولها لي دائمًا وكلما ضاقت بي الدنيا سمعتها ترن بأب أذني وأقول :هذا أبي يا مجد فلترني أباكا