إشراقات أدبية

عكاظ القاهرة بقلم/د. عبد الولي الشميري

 

 

 

أجمع مؤرخو الأدب العربي عبر العصور على أن اللغة العربية الفصيحة كانت حلبة السباق الثقافي بين موهوبى حاسة البيان والفصاحة، وكان الوعاء الذهبي الأجمل لعرض وتقديم الموهبة هو القصيدة العمودية، أو الخطبة السجعية ذات البعد الفكرى والفلسفة الاعتقادية حتى لم ينقل إلينا من ثقافة العصر الجاهلى قبل الإسلام سوى قصائد الشعراء – ويأتى من أشهرها المعلقات العشر – ثم الخطب الجماهيرية، ومن أشهرها وأبلغها خطب (قس ابن ساعدة) و(سحبان بن وائل) .

وإذا لم نأخذ برأى عميد الأدب العربي الدكتور “طه حسين “في موضوع أسواق العرب قبل الإسلام ،ومعلقاتهم، فإننا نجد تراثًا ضخمًا من لغتنا الجميلة وإبداعات العرب الأوائل فى دواوين الشعراء، وخاصة رجال المعلقات الذين كانوا يعرضون في قصائدهم مداخل رائعة من أحاسيس الوجد وشكوى الغرام والغزل ،بالمحبوبة ووصفها، وأطلال ديارها ومواعيدها، ولقائها، وهجرها ،ورحيلها ومراعيهم، وأسماء مشاهير القبائل، وأخبار الصراعات الدائمة والدامية ومدائح الكرماء والملوك والمفاخرة بالبطولة والآباء، وفى كل قصيدة من المعلقات آلاف من المفردات العربية الفصيحة، نسميها اليوم مادة المعاجم اللغوية؛ ومن أجل ذلك أجمع المؤرخون على أن الشعر العربي ديوان العرب وكان للعرب الأوائل أسواق ومعارض على غرار معرض الكتاب الذى ينعقد سنويا بالقاهرة الفارق الكبير الذي حتمه عامل الزمن، والتطور الإيجابي للتنظيم الحديث. وفيما أذكر أن سوقاً ثقافية معروفة كانت قد نشأت في القرن الرابع الميلادي، في مكان يسمى (المجنة) جنوب الجزيرة العربية – لعله اليوم على مقربة من مدينة نجران السعودية – وآخر يسمى (الدبا) فى شرق الجزيرة العربية بين عمان ودولة الإمارات اليوم وآخر فى الشرق الشمالى للجزيرة العربية، ولعله اليوم في البحرين أو الإحساء، ويسمى (المشقر) . وفي شمال الجزيرة العربية – لعله في الأردن اليوم – كان هناك سوق يسمى (بصرى). وأشهر تلك الأسواق قاطبة وآخرها انقراضاً هو (عكاظ) جنوبي مكة .

وعلى غرار تلك الأسواق قامت في العصور المتأخرة والمعاصرة : الجنادرية الحديثة في نجد والمربد فى العراق ومعرض الكتاب فى  بالقاهرة. ولكن هل خلدت تلك المعارض الحديثة لأجيالنا القادمة ثراء إبداعيا جديداً، يكون له الخلود والبقاء على مر العصور من بعدنا كالمعلقات، أم أن واقع الحال أنه لا يوجد أية علامة ولا شامة لأحد ؛ فالشاعر جاء وألقى قصيدة، وهو من بلاد كذا، ثم أقام في الفندق وانصرف، وتنتهى كلمات الاستحقاق بلفظة روتينية مملة رتيبة : (وقد نال إعجاب الحاضرين لكن ماذا قال من روائع، من حكم من صور، من معان جديدة … إلخ؟! لا يعرف أحد شيئا عن ذلك، وهكذا دواليك كل عام كالذي قبله . أليس فى تجربة سوق عكاظ ما يستلفت النظر إلى وجود لجنة تحكيم ممن عرفوا بطول القامة العلمية والمواهب الإبداعية، وليس لهم تحيز سياسي، أو توجه شللي، أو فئوى، يقولون : إن قصيدة فلان هي أرقى وأجود ما قيل في هذا المحفل الثقافي، وقد نالت الاعتراف من هيئة التحكيم، بعد مناقشة علنية، ثم أقر منحها لقب معلقة ؛ الجزالتها وبلاغتها ومتانة تركيبها، وتنتشر بين حفظاً على ألسنة الناس وتطبع وتوزع مجانا ؛ فيعلمها القاصي أسماء أصحابها : أليس ذلك أو صيغة شبيهة هو ما ينقص والداني، وتخلد مع السوق الإبداعية الكبيرة في القاهرة ؟! أليس جائزة الإشهار والخلود من حاكم سوق عكاظ النابغة الذبياني وفريقه الأدبى هى التى منحت لشعراء المعلقات الفخر والتخليد، ما تعجز عنه جائزة نوبل العالمية ذات المليون دولار؟!

إن همومنا كبيرة مع إعجاب محلق في السماء بمعرض الكتاب ،إيجابياته التي لا تعد ولا يكفى هذا المقام لذكرها ولكنى أورد حكاية نقدية مما : إلينا من سوق عكاظ الجاهلى قبل حوالى ألف وخمسمائة عام : لقد وفد إلى لجنة التحكيم شاعر من يثرب يسمى ( حسان بن ثابت) وعرض قصيدته التي نقل

يقول فيها :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى  ***  وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بنى العنقاء وابنى محجل ***     فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابن ما
وطلب إلى الحاكم الناقد النابغة الذبياني قوله فى القصيدة؛ فقال النابغة لو لم تسبقك هذه الجارية لقلت : إنك أجود من قال اليوم. وكانت تلك الجارية “تماضر” المشهورة بالخنساء ؛ فغضب حسان وقال للنابغة : أنا أشعر منها ومنك، وطلب إلى النابغة أن يبين له مواطن النقد السلبي في القصيدة؛ فقال له النابغة : يا بني قلت واصفا جفناتك – وهى قدور طهو الطعام – بأنها غر، والغرة مكان أبيض صغير في الجسد، وبياض قعر القدر يدل على قلة الطعام فيه والكريم لا يكون مقلا، ثم ماذا ؟ وقلت : يلمعن بالضحى، والعرب لا تستضيف ولا تطبخ طعاما فى الضحى؛ فإنهم إنما في الليل يشعلون النيران للطهو والضيافة ، ولو قلت : يبرقن في الضحى، لكان أبلغ وأما قولك : أسيافنا يقطرن من نجدة دما، فإن القطرات دليل على قلة الدماء على سيوفكم والأولى أن تقول: يجرين؛ لأن الدم الجارى يدل على كثرته وفروسية حامل السيف. ثم إنك تفتخر بأبناء بنى العنقاء ومحجل ؛ والعرب لا تفاخر بالخئولة ولا بأبناء الأخت ، ولكن بآبائها، وأنفسها، وأبنائها .

فهل من نابغة ذبياني يحكم فيما يقال على منصة المبدعين في معرض

الكتاب؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى