بعد شهرين تقريبا من البحث والكد المتواصل استطاع محمد أن يكسب تعاطف صاحب ورشة للبناء رغم أنه اشترط عليه العمل بدون أجر في الشهور الأولى حتى يرى منه مردودا وربحا لورشته ، فهكذا هم أرباب العمل لا يهتمون إلا بالربح والفائدة ، ومع كل هذا فقد فرح محمد بالعمل الجديد ولم يخبر أمه بالاتفاق الذي كان بينه وبين رئيسه في العمل ، فلو أخبرها لمنعته بحجة أن هذه الشهور كفيلة بأن يتلقى فيها تكوينا يضمن له مستقبله ، لكن محمد الصغير كان ينظر إلى الحياة بمنظار كبير فقد رأى أنه ليس من الدراسة أو التكوين أو الشهادة إلا تصدر قائمة شهداء الشهادة المختوم عليها بختم البطالة .
لقي محمد معاناة كبيرة في الأيام الأولى نظرا لأن المدينة التي يعمل بها بعيدة عن مقر سكناه مما يستوجب عليه الخروج مبكرا قبل شروق الشمس ومع هذا فقد كان يصل متأخرا في كثير من الأحيان نظرا للزحام الذي تشهده المدينة وما إن يصل إلى الورشة حتى ينصب عليه وابل من التوبيخات مختومة بالتهديد والوعيد بالطرد إذا تكرر الموقف .
وما هي إلا أيام معدودة حتى برز أمامه عائق آخر كون أن مخزونه المالي قد نفذ ولم يبق في جيبه حتى مصاريف النقل ، فلم يجد أمامه حيلة غير المشي على الأقدام رغم المسافة ورغم الأخطار ، فقد كان محمد يصارع الطفل داخله ليكون رجلا بكل المعاني ، لكن الطفل كان يتمرد عليه في كثير من المواقف خصوصا في الأيام الأخيرة فقد كان يرتعش خوفا بأول خطوة يرميها خارج حضن أمه حتى آخر خطوة توصله إلى الورشة .
تسلل محمد كالعادة من بيته والكل نيام يمشي بخطاه المتراجعة والخوف طيفه والرعشة خليلته ، وحين توسط المسافة بين الورشة وبيته تعثر بكومة كبيرة لم تكن قاسية كالصخرة لكنها كانت ساكنة مثلها فسقط في بركة بللته بالكامل لكن هذه البركة لم تكن باردة كالماء بل كانت دافئة نوعا ما ، فنهض مسرعا ونفض ثيابه المبللة بيديه المبللتين أيضا ومشى في ظلام الليل الحالك الذي لم يمكنه لا من رؤية نفسه ولا من رؤية المسالك ، وما إن وصل إلى الورشة وأفشى السلام على العمال حتى تعلقت أبصارهم وعلقت شهقاتهم من منظره الذي كان مخضبا بالدماء ، فنظر محمد إلى نفسه ليرى الشيء الذي صعقهم بهذه الدرجة ، فلم ير غير السواد فقد أغمي عليه بعد أن أدرك أنه تعثر بجثة لا بصخرة وما ظنه بركة ماء كان بركة دماء .
#في_قلبي_حب_دفين
#ريحان_الجزائري
#ببلومانيا_للنشر_والتوزيع
#من_100_أقوى_كتاب
#معرض_القاهرة_الدولي_للكتاب
