المقال
قبس من زمن الحنين بين جودة السرد و ثورة النبض مع الأديبة الجزائرية “وحيدة ميرا رجيمي” بقلم: “بولمدايس عبد المالك”
قبس من زمن الحنين بين جودة السرد و ثورة النبض مع الأديبة الجزائرية وحيدة ميرا رجيمي
السّرد القصصي فن محبّب إلى النّفوس تأنس به الأرواح ، و تحبذه العقول حتى الأطفال الصّغار يعشقونه عشقا عجيبا.. و الأديبة وحيدة ميرا رجيمي غنيّة عن التعريف بما قدمته و تقدّمه من أعمال أدبية فنّية لاقت رواجا كبيرا و يكفيها الشرّف أنّ أدبها أخذ الصبغة الدوليّة و منه ما ترجم إلى لغات أجنبية تأكيدا على قوّة قلمها السيّال و حرفها الراقي الرنّان و بحر معانيها الهادر الفتان…و من الفنون و الأجناس التي برعت فيها و أجادت و أبدعت فن القص القصير إن باللغة العربية الفصحى أو اللهجة الدارجة الجزائرية و هذا النّص الموسوم:” زمن الحنين ” دليل آخر على صحة ما صدّرنا به هذه القراءة المختصرة ..
“زمن الحنين” ..زمن مبتدأ أو خبر و القولان جائزان ثم جعلت من الحنين مضافا إلى الزّمن لتوحي إلى القارئ العلاقة المتعدية بين الزمن و الحنين فطالما هناك زمن فإنه يوجد بالمقابل حنين مطّرد و هذا من فنون التّشويق بله كونه إعلان أخلاقي مبدئي عن توجّهات و ميولات بل و اعتقادات هذا الكلام المبدئي أو الخبر المصدّر به بحسب ما يميل إليه القارئ أو ما أرادته القاصة ميرا ..
دون سابق إنذار تدفعنا القاصة ميرا دفعا عنيفا إلى ولوج عالمها و بلمسة المخرج المسرحي المبدع ترينا ركح خشبة المسرح لتصّور لنا مشهدا معنويا وجدانيا في شكل شخوص مادية مرئية…و بمشهدين يفصل بينهما الزّمن و بإحالة ضمير الغائب المتصل “هو” ترينا في نفس اللحظة مشاهد نفسية توحي باستيقاظ طيف الحنين في أنا الحبيب متمثلا في شخص مادي له مشاعر و أحاسيس تهزّه الرعشات هزّا عنيفا من قبل و تتبعها الرجفات رجفا مزلزلا من بعد لتستغرق لحظات الماضي و المستقبل معا و هذا من التصوير الفني البديع …طبعا و لك أخي القارئ أن تخمّن كيف ستكون النتائج و العواقب.. فالهزّ الذي يتبعه رجف لن يمرّ هكذا بسلام…
دون فواصل زمنية و لا إحالات نحوية و بأسماء نكرة فضّلت أن ترينا المشهد التراجيدي لأثر الهزات و الرّجفات و لا يخفى على القارئ الحصيف سبب التنكير و ذلك ليفيد بأن هذين الطوفان و البركان له خصوصيات و مواصفات أخرى و إن كان لنتائج الطوفان و البركان المدمّرة و المعروفة نصيب معلوم و آثار وخيمة مرعبة .. نلمس تأثر القاصة بالقرآن الكريم أسلوبا و اختيارا ” يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة ” [النّازعات: الآية 7] و هذا من التّناص لأدبي المفيد .
زمن الحنين ..
هزته رعشة .. تبعتها رجفة ..
طوفان .. بركان ..
و لتزيد المشاهد وضوحا و تشويقا عملت على تصوير ذاك الحنين المهتزّ المرتجف في صورة صدمة معنوية أو ثورة نفسية أو هزّة وجدانية أو قلق عابر اجتاح سكينة ذاك العاشق الساهي الغافل.. و التّعبير بالاجتياح مقصود من القاصّة ميرا فهو اجتياح شامل لكل نقطة في القلب لم يترك مساحة إلا واجتاحها و كذلك تفعل الجيوش القوية حين تريد إبراز بطشها و قوة تدميرها و ما طوفان نوح عنا ببعيد ..و هذا مشهد آخر عن مدى الأثر المدمّر الذي اجتاح نفسية الحبيب الهادئة السادرة..
المعلوم بأن الحنين لا قلب له يفقه و لا عقل له يميّز فما بال الحنين هنا يدرك جيدا وظيفته الملقاة على عاتقه و يذهب مباشرة و بهدى و دراية إلى أضعف نقطة في القلب ألا و هي نبضه إذ ما لا نبض له لا حياة له ..فالنبض علامة حياة القلوب العاشقة فيا له من مقتف للأثر بارع و محترف ..
فما هي الرسالة التي حمّلها هذا الحنين ؟..
و لتكتمل الصورة و يتضح ما خفي تقحم القاصة ضمير الغائب المتصل “هي” ليتبين الخيط الأبض من الخيط الأسود ..المرسل و المرسل إليه و ما تبقى إلا موضوع الرسالة ؟..و نلاحظ دقّة اختيار الألفاظ التي تتناسب مع المعاني المراد تبليغها و هذا البلاغة و الفطنة ..
و لعلّ هذا الحنين قد أدرك شدّة تعلق “هي” بدارها القديمة و حيّها العتيق فأراد أن يحرّك في جوانحها ذكريات ماضيها ليكون بذلك أكثر مصداقية و تأثيرا بل وتهييجا…
حنين اجتاح سكينته ..
اهتدى الى اقتفاء أثر النبض..
الى دارها القديمة في الحي العتيق ..
اختار الحنين ركنا معيّنا و خاصا لذلك نكّره و لم يعرّفها ربما كانا يلتقيان فيه خلسة بعيد عن أنظار المتربصين أو ربّما له مناسبة خاصة لم يرد الحنين إثارتها زيادة في التشويق و الترغيب أو ربما هناك سبب آخر فضّل الحنين كتمانه ..كتب رسالة مختصرة هي من جنس الحجاج البلاغي أو الإيقاع الموسيقي الدّاخلي.. إنه الطباق و ما يتركه من تقاطعات و تساؤلات ..المقدمة حبّ و النتيجة كره ..إعلان صريح عن شدّة ندمه في التفريط في محبوبه و أنّه لم يكن في مستوى ذلك الحبّ إذ أخل بأحد ركنيه فتأرجح الميزان و اختلّ.. صورة جميلة جدا للندم و مشهد ظريف و متأدب عن جمالية الاعتذار و رومانسية الموقف…هو إعلان صريح عن تفريطه و خسارته و ندامته و لكنه ضمنيا يعبّر عن استعداده لتدارك الموقف في حالة قبول اعتذاره أو إرسال إشارة إيجابية عن الصفح الجميل …
كتب رسالة على ركن في بيتها..
“أحبك وأكرهني” ..
و لكنّه لم يكن يعلم بأنها “هي” لم تخنه أبدا بل ثبتت على حبّه و حرصت على الوفاء به و ما إجابتها المفاجأة بالنسبة له إلا خير دليل على صحّة مقصدها و نبل موقفها …و بلغة العاشقة المتيّمة و بحروف الصفح الجميلة تكتب ردّها الصارم و المبدئي ” أحبك .. وأكره من يكره الذي يحبني” .. ..الجرعة الأولى تطمينية “أحبّك” أي قد أحببت من قبل و لا أزال أحبّك في المستقبل فاطمئن و اهدأ …و الجرعة الثانية تأكيدية و حاسمة “و أكره من يكره الذي يحبّني” ..الأنثى بفطرتها تدرك مدى إخلاص الرجل للمرأة و لها قدرة عجيبة في فكّ شفرات كلام الرجل في حالة الصدق أو في حالة الكذب.. و قد أدركت “هي” تلك الحقيقة فأعلنتها صراحة :
تفاجأ في صبيحة اليوم الموالي .. بردها ..
“أحبك .. وأكره من يكره الذي يحبني” ..
و تلك نهاية جميلة يحظى بها المحبّين و العشّاق كعربون لإخلاصهما و ثباتهما و وفائهما…قصة قصيرة بعدد حروفها و لكنها عميقة و طويلة في عالم الواقع و الوجود…
بولمدايس عبد المالك
تونس في 28/12/2021