القصائد
قصيدة على الورق للشاعرة التونسية “لمياء بن قبلي” بقلم: “بولمدايس عبد المالك”
قصيدة على الورق للشاعرة التونسية لمياء بن قبلي بين جمالية الصورة و تقرّحات الذات
الذات الشّاعرة عالم خاص لا بشبه عالم الوجود إلا في بعض معالمه …عالم رحب يخفي أسراره بين ثناياه ، و لا يبوح بها إلاّ إذا اختلى العاشق بمعشوقه ..أرواحه تناغم بين حروف و ورق ..أين يفضي كلّ منهما للآخر همومه المثقلة و تباريحه المتقرّحة.. تشبهه الشاعرة لمياء بن قبلي بعالم متحرّك غير ثابت طويل الترّحال ..تسافر فيه الحروف إلى حتفها و لا تملك إلاّ شكاوي متجدّدة لتؤول حشاشاتها بين قلقلة الغرق و من قبل طالها ليل ممتدة سدوله ، مؤلم سهاده ..لا حيلة للشاعرة في ظلّ هذه المأساة إلاّ الهروب بين جوانح دفترها الخاص ..تقلّب صفحاته و تقرأ كلماته عساها أن تنعم بالهدوء و الأمن و الطمأنينة و لكن هيهات هيهات فقد كان لها الأرق بالمرصاد ..وحش ضاري مسعور قض مضجعها مجدّدا ترحالها و شكاويها و تباريحها…
على الورق يطول التّرحال
و كلّ الحروف تشكو الغرق
ليل طويل و سهاد، غادرني الكرى
آويت لدفتري بين صفحاته
هاجمني الأرق
و يبقى الورق ملاذها الآمن و الأخير رغم تلك النهايات الموجعة و الذكريات الطفولية البريئة …فالورق فرصتها الوحيدة للهروب من عالم الحقيقة.. و نلاحظها تستخدم قد التي تفيد الشّك و الفعل المضارع الذي يفيد المستقبل كنافذة أمل قد تلوح في الأفق البعيد…هي صيحة خافتة تعيد رسم بسمتها الطفولية ترسمها بألوان دمعة مجنونة على وقع شريط الذكريات الممرر أمامها عسى القدر أن يواتيها و يعيد لها بعضا مما سُرق منها من ذكريات جميلة و حوادث أجمل و صور أبهى و قصص أروع…
على الورق قد نرسم بسمة طفولية
قد تنسكب دمعة مجنونة
حين يمرّ شريط الذكريات
و يعود الماضي و ما سرقه
من بين أيدينا القدر
و بلغة الحركات تنحت لنا الشاعرة لمياء لوحة جدارية مدهشة تتولى فيها الحركات من ضمة و كسرة و نقطة التعبير عما عجزت هي عن الإدلاء به ..
على الورقة نقطة تائهة
و ضمة هائمة
و فتحتة مستلقية
و كسرة متوجعة
و فاصلة بها الفؤاد قد احترق
و سكون يعم المكان و من قبلي
النبض سُرقْ
لوحة نفسية نحتتها أصابع نحّاتة بارعة ، أدواتها حركات التنقيط و هي لغة عالمية تشترك فيها جميع البشرية …و ما جعلت النقطة إلا لتقرر انتهاء الجملة و الانتقال إلى جملة ثانية لكن نقطتها شاردة تائهة غير مستقرّة تبحث عن نهاية سعيدة آمنة.. و ما حال الضمّة تلقى نفس مصير النّقطة و بدلا من تأخذ مكانها الرّفيع اللائق بها ها هي هائمة على وجهها كريشة المتنبي لا تستقر إلا على حال من القلق.. و هذا تصوير لفواصل نفسية دقيقة لمن كان للجمال عاشق و لحسن المعاني طالب…
إنه نفس المصير يسري على باقي علامات التنقيط من فتحة مستلقية طريحة و كسرة آلمها التيه و الشرود و فاصلة احترقت من شدة نيران فؤاد متقد مشتعل ..
لتختم علامات تنقيطها بالسّكون.. و لكن بأسلوب بلاغي فاتن حيث جمعت بين ما تفيدة علامة السكون و معنى السّكون ذاته ..فهما في الأصل سكونان لا سكون واحد و هذا من جمال اللغة الأخاذ لتعبّر بصدق عن السكون الهادر الشامل الذي أصاب عالمها النفسيّ و خصّت النبض بالسرقة لتأكدّ استفحال السّكون و هيمنته على كلّ تفاصيل حياتها و كأنّها تستسلم لنهايتها الحتومة .
و تواصل الشاعرة لمياء رحلتها مع الورق و بين الورق ..وما تكرارها للفظة الورق- أكثر من عشر مرات – إلا تأكيدا على ضرورة الالتفات إلى صفحات هذه الأوراق و ما ستدونه عليها من بوح و اعترافات و شهادات سيشهد لها التاريخ يوما ” و الكلّ حروف سجّلها التاريخ على الورق….” كما صرّحت به في آخر مقطع لها من هذه القصيدة .
يخطئ من يعتقد بأن الحروف مجرد رسوم و أشكال لا روح فيها و لا حياة…بل هي عند الشاعرة لمياء أرواح راقصة و فاتنة تغرّ مداد الحبر بكلّ ألوانه المعروفة الزّاهية التي عرفتها الحضارات القديمة و الحديثة و حتى الألوان التي لا لون لها تساهم في إثارة ذلك الإغراء و الوصول به إلى درجة النشوة و الهيام و الفعل …و بصورة تشبيهية مكتملة الأركان تزيّن ورقها لتشبّه تلك الأبجدية الراقصة بعروس يوم معرضها و قد خضّبت يديها بحناء كعلامة لاستعدادها لتقاسم روحها مع من أتارته شريك حياتها حيث لا وجود للحزن و لا للكآبة ..فقط سعادة ..طمأنينة..فرح متواصل..
اللافت للانتباه كون هذا المقطع قد خالف المقاطع السّابقة إذ تميّز عنها بجرعات الأمل الكبيرة التي يحتويها نبض ورقها المتسارع و بهاء ألوان أبجديتها الراقصة ، و هذه النّهاية السعيدة التي تتمنّاها كلّ عروس أنثى… و لك أيها القارئ الحكم ..
على الورق أبجدية راقصة
تغري ذاك الحبر
تفتن كل الألوان و اللاألوان
تخضّب يديها كعروس
تتزين ليوم الزّفاف
و الحزن عنها افترق
و حتى تكتمل تلك الصورة الجميلة لتلك العروس الفاتنة بألوانها و رقصاتها و حنّائها تصرّح الشاعرة عن حقيقة هذه الأبجدية و التي تتداخل أحيانا مع صورة الأنثى فلا نكاد نفرّق بينهما ..هل الأبجدية هي المقصودة أم أن الأنثى هي التي تتحدّث ، و لعلّ هذا المقطع قد يجيب عن هذا التساؤل المشروع كما أنّه قد يزيد المشهد على الورق ضبابة أكثر و غموضا متراكما..
و لنرهف أسماعنا لما تقول:
على الورق قصيدة عذراء
لم يكتبها أحد من الشعراء
و لم يلامس تفاصيلها أي ناقد
و لم تبلغها عطورات الرجال
حورية تختفي وراء ستائر
ما كان و ما سيكون و ما سبق
عندما تتشكلّ تلك الأبجدية و تتناغم و تتزواج بين حروفها تخرج لنا وليدا على هيئة قصيدة عذراء لم يمسسها شاعر وصافة من قبل أو يغازلها ناقد جريء.. المقطع يعجّ بالإيحاءات و التصريحات و الكنايات و كلّها تصبّ في مجرى واحد.. التأكيد على عذرية و طهارة ذلك المولود المبارك و بقاؤه على فطرته و عذريته و وفائه و طهارته من بعد.. و هذا اعتراف ضمني على عدم حدوث أي تشوّه لتلك القصيدة العذراء إذ لم تطلها عطورات الرجال و لا إغراءات الشعراء و لا حتى تفاصيل النّقاد و ملاحظاتهم…لتختتم هذا المقطع المتداخل بين القصيدة الأبجدية و الأنثى الحورية بأنها لم تزل كما خلقت من قبل و الآن و في المستقبل.. و هذه رسالة طمأنة لحبيبها المنتظر الذي سوف تزّف إليه يوما من الأيّام …
أعتقد بأنّ هذا المقطع الآتي بمثابة المفتاح أو الشفرة التي تحلّ لغز لعبة الورق و الحروف.. الشاعرة تختزل الطريق و تمحو تلك الأبجدية التي تغنّت بها على الورق عبر ذلك الحل و الترحال لتعوّضه بلفظ واحد مختصر “أنت” ..ضمير المخاطب المذكّر ..في هذا المقطع تستسلم الشاعرة لضغوط الواقع و تنزل من قبّتها العاجية لتعلن له “أنت” و للعالم عن طبيعة أبجديتها و حروفها …و لا أستبق الحدث و لنسيح في اعترافاتها الصادمة من بعد تلميحات و إيحاءات سابقة …
على الورق أنت
لا أستطيع الحضور دونك
أخفيك بين سطوري
بين كلماتي و عباراتي
أستنجد بك حين يهاجمني
الشوق و يستنكر قلبي ذاك القلق
جملة توسّلات جاد بها قلب عاشق ذليل …تعلنها هكذا و على الملأ بكلّ جرأة و صراحة و وضوح ..و استجداءاتها و صرخاتها واضحة و هي من جلاء ما يغنينا عن الإضافة عليها فقد أطلقتها ممتطية صهوة السهل الممتنع…
و هاهي في المقطعين الأخيرين تشرح ما اختصرته في المقاطع السابقة و ما تعمّدت إخفاءه بين الكنايات و الاستعارات و أجنحة الخيال و محامل الألفاظ …إنها تصف حالة عاشقة ولهى لا قيمة لأبجديتها و حبرها و ورقها إلاّ تحت كنف عاشق يبادلها نفس الشعور حيث تختلط الشهقات بالزفرات و يغيب الروحان في ذلك البدن الماديّ الضعيف…و لنترك الشاعرة لمياء بن قبلي تصف لنا نهاية تلك القصيدة العذراء و الأبجدية الراقصة و الوردة الذابلة و الحلم المؤجل و العروس الجميلة….
على الورق و بين الورق
وردة ذابلة يفوح منها العبق
كلما اقتربت منها شتتت أجزاءك
و عند الشهيق تعود الروح
و عند الزفير تختلط النفاس
و يعود ذاك الحبيب و ذكراه
بين كل زقاق و مفترق
على الورق حلم ،أمنية كٌتبت
أخطاء شٌطت
و أرواحا جمّدت بين الورق
و أخرى بعثت بها الحياة
نهاية تبقي الأقلام أقلاما
و يبقى الإنسان إنسانا
و الكلّ حروف سجّلها التاريخ
على الورق….
و تختم الشاعرة اعترافاتها على الورق بإعلان ضعفها البشري و حاجتها لمن يأنسها و لو على الورق و بين الورق و ستؤول كلّ هذه الحروف و الحبر و الأقلام و الورق أرشيفا يحفظه التّاريخ الإنساني في أقبيته و رفوفه …و الملفت في ختام المقطع الأخير تشبث الشاعرة بخيوط الأمل ؛فما تلك الحروف عندها إلاّ أرواحا مجدّدة تنتظر بشوق و شغف نفخ الروح فيها لتنتفض من جديد متمّة لرسالتها التي خلقت من أجلها ألا و هي تعمير الحياة و استمرار الحب و النوع البشري و الحياة…
بولمدايس عبد المالك
تونس في 27/12/2021