قصّة قصيرة بعنوان {نصر مُؤجّل} فادي خليل يوسف
قصّة قصيرة بعنوان {نصر مُؤجّل}، للكاتب فادي خليل يوسف ربحتْ مركزاً ضمن المراكز العشرة الأولى في مُسابقة “طوفان الأقصى”.
_________________________________________
محمود سويلم، هذا اسمي الحقيقي. لكنَّ النّاس يُفضّلون مناداتي بلقب: أبو يوسف. أربعينيّ العمر. ماتتْ زوجتي منذ سنتين، إثر مرض عضال مُزمِن، ولأنّها منذ ولادتها، تُفضّلُ كلّ ما يُريحها على ما يُتعبها، شاء الله لها أن تموت قبل أن تتعذّب بجلسات العلاج. لذا، قطعتُ عهداً على نفسي بعدم الزواج مرة أخرى، مُتعهّداً أمام جثمان حبيبتي الفقيدة الاعتناء بأطفالنا حتى آخر العمر. أسكنُ في قلب مدينة غزة، مع صغاري يوسف وسارة. يوسف في السّادسة من العمر، أبيض البشرة، ناعم الخلقة، شعرهُ أشقر مائل إلى نوع الكيرلي. يسألُ بين الفينةِ والأخرى عن والدته، لا أعرف ما الذي يذكّره بها كأنّه رآها منذ وقت قصير، أم أنّه يرى أمّهات زملائه في المدرسة، فيشعر بالحاجة والوحدة والفقد، رغمَ أنّني أحاول بكلَّ ما وهبني الله من القوت العاطفي تعويض وجود الأم، مُتيقّناً من الدّاخل أنَّ الأم لا تُعوّض، وأنَّ الطّفل الذي كبرَ دون والدته، يبقى مدى الحياة شاعراً بالفراغ والنّقص. لذلك، كرهَ يوسف المدرسة والّصف ونهاية دوام المدرسة، ورؤية الأمهات اللواتي ينتظرنَ أطفالهنَّ. إنّهُ ببساطة يكرهُ أن يتعرّى أمام الوحدة ويشعرُ على الملأ أنّهُ طفلٌ بطفولةٍ ناقصة. أمّا سارة فهي بنت الأربع سنوات إلّا بضعة أشهر، لا تعرف أمّها إلا من صورتهما الوحيدة الموضوعة على الحائط. تسألني أحياناً مُشيرة إلى الصّورة: هل هذه أمي؟ وقبلَ أن أُجيب، تُضيفُ سائلةً: لماذا تبتسم رغمَ أنّها ستتركني وترحل؟ أبقى صامتاً دون أن أُجيب، والحقيقة أنّي لا أجد جواباً مُناسباً، يُرضي مشاعر صغيرتي. مما يجعلها تكفّ عن التساؤل، وتذهبُ إلى عزلتها المُقدّسة مع ألعابها الخاصّة. نجلسُ الآن ثلاثتنا على الأرض لتناول وجبة الفطور، فاليوم هو يوم العطلة، اليوم الذي ينتظرهُ يوسف بكلّ جوارحه وبراءتهِ، ليرتاح من المدرسة. أتساءلُ يائساً: هل هذه وجبتنا الأخيرة المُشتركة؟ قد يموت أحدنا في أيّ لحظة، أو قد نموت ثلاثتنا، كعائلة. فالقذائف على المدينة لم تهدأ منذ إن أعلن العدو الصّهيوني دخوله حالة الحرب. نعم، الموت صار وجه مدينتنا الأوّل، حضارتنا سيذكرها التاريخ في شهادتنا. والنّاس في الشوارع يمشون بحذر، ينظرون إلى بعضهم البعض نظرة وداع خاطفة، كأنّهم موتى مُقبلين. أوفّ! نفختُ زفرةً طويلة، فأقطعها في منتصفها. أتأملُ الطّفلين معاً، وهما يأكلان بشهيّة، مُتجاهلين أصوات القصف، لقد اعتادا على هذا النّوع الحقير من الموسيقى، وصار جزءاً لا يتجزّأ من طفولتهما البائسة. أحرّكُ رأسي يميناً شمالاً، كمَن يرغبُ بطردِ أفكاره المأساوية، وأهمسُ بآيةٍ قرآنيّة لالتماسِ الصّبر وهدوء النّفس ثمَّ أُنهي هلوساتي بهمهمة: تفاءلوا بالخير تجدون. أريد أن أخرجَ إلى السّوق، لجلب بعض الخضراوات والأشياء من أجل الوجبة القادمة، لكنّني أخشى أن أُغادر، فأفقد أسرتي. يا لهذهِ الهلوسات النّكراء! يخرج الإنسان من منزله ولا يضمن أن يعود، وإن عاد، لا يجد عائلته، وإن وجدها، يجلسُ يودّعهما بصمت. ما هذه الازدواجية السّخيفة؟ وأين كلّ عربي إسلامي عن كل هذا الاجرام الهائل؟ هل هو غافل ونائم، أمّ أنّه يرى ولا يريد أن يرى؟
في الأمس، قصفَ العدوّ منزل صديق العُمر، الذي يسكنُ في الشقّة المُجاورة. تجمّعتْ طائفة قليلة من الناس، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. طلبتُ من الناس بعصبيّة أن تتفرّق، فمن الضّروري وجود مسافة لا بأس بها بين كلّ باحث وآخر، حتّى لا يموت الجميع بصاروخٍ واحد. نعم، كرامتنا لا تسمح بذلك. نُجاكر العدوّ، فنكلّفهم مقابل كلّ صاروخ منهم، شهيد منّا. أمّا اليوم الذي قبلهُ، فقد ماتَ مختار الحيّ بطلقة عشوائيّة. الحياة في المدينة باتتْ غوغائيّة، تُشبهُ فيلماً يتحدّث عن نهاية العالم، لكن من باطني، يخرجُ شعوراً لا أعرف مصدره، يقول: سننتصر، لا بدَّ للحقّ أن ينتصر في النّهاية، ولكن متى؟ وبأيّ طريقة؟ وما قيمة الضّريبة المدفوعة من أجل الانتصار، وهل سنكون شهوداً على هذا الحدث الجلل؟ لا يهمّ، كلّ هذا لا يهمّ، المُهمّ هو الغاية، والغاية تبرّر الوسيلة، وغايتنا المُثلى هي الانتصار. سألَ يوسف: أبي، لقد شاهدتُ جارنا في الأمس، يقفُ في أعلى قمّة من سطح منزله، وتُشيرُ يداه إلى رقم سبعة، فماذا تعني تلكَ الإشارة؟ فأُجيب: هذه إشارة النّصر يا حبيبي، تقوم برفعِ إصبعي السّبابة والوسطى، أوّل ما استخدمَتْ في الحرب العالمية الثانية، وهيّ مأخوذة من الكلمة الإنكليزية ( VICTORY) الدّالة على الانتصار. تدخلُ سارة الحوار، وتسأل: ماهي الحرب العالميّة يا أبي؟ أُجيب: هي حربٌ وحشيّة يا حبيبتي، تعاركتْ حينها كلّ دول العالم فيما بينها، والحقيقة الأكثر وضوحاً: لقد تعاركَ الأقوياء ضد الضعفاء، لمحوهم، ونسفهم من خارطة الوجود. ثمَّ تسأل: هل هي وحشيّة كحربنا يا أبي؟ فيُجيب يوسف: على الأقل، كان البعض ضدّ البعض الآخر، أمّا في حربنا: فالكلّ ضدّنا. فأقاطعه: الله معنا يا حبيبي يا يوسف، ونكتفي بهِ من مُعين. تناولوا طعامكم الآن، علينا أن نلتزم الصّمت في وقتِ الطّعام. وينشغلُ الطّفلان في طعامهم، وأجلسُ أراقبهما يائساً، خائفاً عليهما من الغدّ، عيني على رعشة طفليَّ إثرَ كلّ قذيفة عابرة، والأخرى مُوجّهة إلى السّماء، تطلبُ الصبر، والعون، والحياة.