قراءة في كتاب

كريم أساس من مجموعة طقوس الصعود لبهاء عبد المجيد

كان يُراقبها من بعيدٍ فقط بُعْدَ الفِراش مِن المرآة التي تقف أمامها لتتزين، وهي تضع المسكرة حول جفونها بدقة، ثم تضعها جانبًا لتلتقط الكونسيلير لتداري بلونه الأبيض الهالات السوداء التي بدأت تسكن أسفل عينيها، وخاصة بعدما نزفت أثناء ولادتها لآخر طفل. بدت سيدة جميلة ولكنها متقدمة في السن رغم أنها وصلت الأربعين للتو… من ملامحها بدت مرهقة وغير سعيدة، أما هو فقد كانت تملؤه الحيوية والشباب. وهو يتفحص فعلها وطقوسها، استشاط غيظًا ولم يستطع أن يسكت، فسألها بانفعال: “نهلة” هل ستظلين هكذا لا تفعلين شيئًا غير التزين؟ فنظرت إليه وحبست ابتسامة هاربة .
عملت بنصيحة والدتها بألَّا تنسى أنها أنثى، وأنها يجب أن تهتم بشكلها حتى لا يهملها زوجها ، ويذهب إلى امرأة أخرى، فالرجال ليس لهم أمان. فهو يتشاجر معها على أتفه الأسباب ويراها قبيحة، خاصة عندما ترد على غضبه وتدافع عن نفسها، ويُعيِّرُها متهكمًا: “إيش تعمل المشطة في الوجه العكر”، كانت تستغرب مقولاته وتتساءل: كيف يتفوه بهذه الألفاظ وهو الشخص المثقف الذي درس الفلسفة ويترجم أمهات الكتب في الفكر التنويري؟ ولكنها كانت تصبر لأنها بالفعل تُحبُّه، وعندما حذَّرها الأطباء من الانفصال نظرًا لخطورته على نفسية ابنتهما وأعصابها التي تعاني الصرع الليلي والاضطراب السلوكي رضيت أن تستمر رغمًا من عُنفه وسوء معاملته له.
هو لم يحبها مطلقًا هو أراد أن يتزوج لأنه حان وقت الزواج، ولم يعد هناك وقت يضيعه، خاصة بعدما تركته خطيبته لسبب غير واضح، فقد اعترف لها ذات مرة أنه شعر بالملل والضَّجر من الارتباط بهذه المرأة التي لا تعشق غير التقبيل.
ماجد يكبر نهلة بسنوات قليلة ويُعيِّرُها مع ذلك بأنه أنقذها من العنوسة، وفي لحظات أخرى بأنها ارتبطت به ؛لأنها كانت الفرصة الأخيرة لترتبط برجل.
كان ينهرها طوال الوقت ويدعي أن عصبيتها هي السبب في ذلك..
لا يزال ينظر إليها وهي تتزين، ولكنها بدت فاقدة الحماس لهذا الطقس الجميل، ثم قال لها وهي ترسم شفتيها الرقيقتين بأحمر الشفاه:
– لماذا تتزينين؟ ولمن ؟ ثم أضاف: التي في مثل سنك تستعد للموت، وتحفر قبرها بيديها، وتنتظر اللحد وغَلْقَ فوهة القبر عليها……
عندما سمعت نهلة زوجته مقولته ذُهِلَت، ولم تصدق هذه الأمنية، وتخيلت الحدث ومأساة الموت مبكرًا، وتَرْكَ ابنتها للضياع وعائلتها التي تحبها، خاصة والديها وأخاها الذي تتوق لأن تحضر زفافه، وتُصلي كل ليلة بأن يرزقه الله بزوجة تحبه وتَّتقي الله فيه.. كانت تنظر للفساتين السواريه في الفترينات، وتتمنى أن تشتري فُستانًا لتحضر به زفاف أخيها، وأيضا ستشتري فستانًا آخر لابنتها لتحضر معها الفرح.
لماذا تفوَّه بهذه المقولة الكئيبة؟! إذن هو لا يحبها؟ يا له من كاذبٍ ومُنافقٍ! كيف يعيش معها ويعاشرها ثم يتمنى موتها! هي التي أعطته كل وقتها واهتمامها، وتركت حياتها وراءها لتجعل منه إنسانًا ناجحًا! ولكنه الآن يتمنى موتها، تعلم أن لديها أخطاءها أيضًا، فهي عصبية وغيور، ولكن هذه الخطايا لها أسبابها، وهو الذي جعلها عصبية بإهماله إياها، واعتنائه بأهله ووالدته وبنات أخواته وبنات خالته، فهو يكون في قِمَّة السعادة بينهن..
لماذا قال ذلك؟ هي ضعيفة البنية فعلًا وتُراودُها اضطرابات في الضغط والقلب أحيانًا، وتستخدم مُنظِّمًا لضربات القلب، ولكنها استطاعت أن تعيش وتنجب طفلة وتعتني بها خير عناية، نعم وُلِدَت ضعيفةً، وذات صَدْرٍ حسَّاسٍ، ولكنها تُوليها اهتمامًا شديدًا لو ماتت هي كما يتمنى ودعا عليها فمَنْ سيهتمُّ بالطفلة؟! هو؟ لا طبعًا.. فهو مشغول طوال الوقت مع أصدقائه وكتابته الفلسفية التي لا يهتم بها أحد…نعم ساعدته أحداث يناير أن يخرج للجماهير، ولكن مَنْ يهتم بالفلسفة والشَّعب يبحث عن الخبز والوظيفة.
قضت نهلة حياتها معه، ولكنها باتت مُنكسرةً وشاحبةً، توقفت الدورة ولم يلاحظ، وبدا زَغَبٌ خفيف ينمو فوق شفتها العُليا… تردَّد أن يطلب منها أن تنزعه، وطلب الصيدلية أكثر من مرة، وتردد في أن يسألهم عن كريم مناسب لإزالة الشعر أو حتى حلاوة عسل كما كانت تفعل والدته، خاصة عندما كان يغيب والده في السفر، وكان يتعجب: لماذا كانت تفعل ذلك خاصة في وجود صديقتها الوحيدة التي كانت تنفرد بها ساعات طويلة في حجرتها؟ ولم يستطع أن يعرف ما وراء هذه الحجرة….فقط رآها مرة من ثقب الباب، هذه المرأة الغريبة تضغط بقوة على بطن أمه وهي تتأوَّهُ ثم فصد دم وبُقع أغرقت الفراش، وكادت والدته تموت من الإعياء.
كبرت ابنتهما، وحتى لحظة الزفاف رفضت أن تتزين زوجته وقالت: الزينة في القلب، ولكنها صممت أن ترسل ابنتها لأهم مصفف شعر في الزمالك، ومركز للعناية بالبشرة والحمام المغربي حتى تبدو كأميرة هاربة من قصور الملوك، كانت نهلة فرحة، وهي ترى ابنتها سعيدة ومبتهجة بزوجها وسط المدعوين والحضور، وكلما نظر إليها زوجها ماجد تنقبض تتجهَّم، حتى أن ابنتها نبهتها لذلك.
لم تمكث طويلًا بعد زفاف ابنتها، وفاجأتها متاعب القلب التي كانت تتحملها وتتحايل عليها ورحلت بهدوء في سريرها. كانا قد انفصلا في فراشهما لسنوات كثيرة، وكان يزورها أو تزوره كلما فاض بهما الحنين أو حتى بالتهديد بفضح سرها بأنها لا تقوم بواجبها الشرعي نحوه. لم ترتدِ الحجاب إلا أنها متدينة بحق، ورضا الرب مهم في حياتها، وكان يفتخر أنها لم تزهده يومًا ما، وكان عندما يتحدث بجرأة عن هذه العلاقة الخاصة وتغضب وتقول له: حتى هذا الشيء الجميل والباقي تريد أن تُفسِده.
عندما وجدها هكذا بلا حراك لم يدرِ ماذا يفعل انتابه ذهول ثم ذُعر وأحاطته حالة من الهيستريا، ثم بدأ يصرخ، ويطلب منها أن تستيقظ، ولكنها كانت بعيدة تمامًا وباردة وبيضاء كالنهار وكالشمع .

الإدارة

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى