إشراقات أدبيةالقصة

لو كانت أمي ياسمينة بقلم الأديبة خولة البصري

لو كانت أمي ياسمينة
—————————
لم أعد اطيق رؤيتها خاوية ..مهزومة. ذابلة
لم أعد أحفل بالحياة ..بالألم ..بأمنياتي ..كلما نظرت الى عينيها المسافرتين الى اللامكان واللازمان حتى حسراتها التي كانت تذرفها فينتشر أريجها في زوايا البيت حين تعود منهكة من عملها ,حبستها داخل دهليز روحها ولم نعد نسمع رنة صوتها القوية .الصلبة .المقاتلة ,وهي تحاول أن تقف دائما وتتجنب السقوط وتوصينا أنا وأخواتي الاربع ألا نجعل أمرا من أمور الحياة يهزم أرواحنا فالقوة لا تكمن في الجسد كما يتصور الناس بل في الروح .هذا ما عودتنا عليه منذ تعلمنا منها ألف باء النطق وحتى اليوم, ونحن الاربع نقارع المعلومات المخزونة بين صفحات الكتب لكي نحقق لها أملها .لا في إسكات اصوات الشامتات والشامتين ولا في إثبات أهمية انتاجها ولا في لجم الاصوات التي تحاول أن تقتل جذوة الحياة في قلبها فقط لأنها لم تنجب الذكر, ولكن لكي نكون بمثل قوتها إذ ما حكمت علينا الاقدار ان نكون تحت سلطة ذكر كأبي..
نعم لا تستغربوا قولي فمذ اصبحتُ أميز الاضواء وافصل ضوء الشمس الساطع عن ضوء القمر المتألق وأنا اشاهد أمي وهي تقاتل بصمت وبهمة كي لا تسقط فريسة رغبات أبي في تحطيمها واحالتها الى امرأة لا تتقن فن الحياة قدر اتقانها فن الموت .لكن أمي وبعزيمة لا تقهر واصلت مسيرتها. فكلما حاول ذكرها أن يُسقط لبنة أعادتها هي الى مكانها بإصرار الانثى الحامية صغارها.
وهاهي اليوم تتسربل في رداء الالم .ولم أكن لأحفل لو كانت الآمها في عضو من اعضاء جسدها فلطالما تعالت على آلآم جسدها وهي تقف متأرجحة في مطبخها تعد لنا أشهى الاطباق وتنحينا بكف عطفها عن التقرب من نار الطهي كي لا تلفح جلدنا الرقيق أو تتلقف من ايدينا قطع الثياب حين نروم وضعها في الغسالة وهي تقول
-تركي ,,تركي محد عاتب عليج
انها أمي.. حتى لو أغلظت كلماتها فلن تستطيع ان تمنع رائحة الحنان من أن تفوح منها.
تركتُها هائمة في ضباب حزنها بعد أن حاولتُ معها ان أرطب أحشائها ببعض الطعام وأحاول ممازحتها انا واخواتي بما نحاول صنعه من طعام لتذوقه وتبدي رأيها ورغم انها تحاول ان تغالب ألمها لكن سحابة الحزن تأنف أن تبتعد عن محياها .
أمي التي لا تعرف للحزن مكان إلا في أعمق اعماق قلبها مالها منكسرة مهدودة ؟أي أمر ذاك الذي هز روحها واستطاع ان يغلبها وهي التي لم تُغلب يوما ؟ قررت ان ابحث وأن استكشف وأن افتش خبابا ما تخفيه عنا حاصرت أبي واجهته للمرة الاولى ودون أن افكر في العواقب واتهمته بإنهاكها وتدميرها. صرخت في وجهه وعاتبته بعصبية وأنبته بشدة وبينت له أننا يوما سنثور سنعلن الرفض سنقفز الجدار ونرفع راية العصيان فوق كيان عائلتنا الشامخة بقامة أمي الميساء.
قضيت ساعاتي محاولة أن أجد ما أذبل روحها قلبت أوراق عملها المنظمة تصفحت طيات كتبها التي كانت تجمعها مذ كانت ياسمينة نضرة تفتش عن حديقة بهية تغرس فيها جذور شخصيتها لكنني لم أجد أمي بين مقتنياتها كأنها كانت تخفي نفسها .تواريها. تأدها لئلا يراها الاخرون .
فالأخرون لا يريدون رؤية الاشعاع الذي لا تتبينه عيونهم هكذا تبين لي ان أمي حرصت على إعدام أجزائها ولم تبق الا ذلك الجزء المتعلق بنا هو الذي يجعلها تواصل وتتقدم وتعتلي سلم نجاحها يوما بعد آخر .كنا نرى منها هذا الجزء المبهر فقط وغفلنا عن رؤية الجانب المظلم الذي لا يلائم سطوعها, الجانب البارع في الهدم الذي يرفض الارتقاء معها بل يريد النزول بها الى حافرته
– تعودنا نخفي أحاسيسنا
تعودنا من الصغر ان الاحساس عيب
الحزن على غير موت الاهل والاقارب عيب
الفرح لغير فرحة الاهل والاقارب عيب
الثورة على الباطل اذا كان من الاهل والاقارب عيب
الرفض عيب .الخيال عيب .النور عيب
لتحاولين تبحثين عني .مراح تلگيني ياماما
كانت تقف على باب غرفتي وانا اقلب حاجياتها ..مقتنياتها.. رأت سحابة الخجل التي غمرتني احمرارا فاقتربت مني واحتضنتني بدفء غريب كأنه قادم من عالم خفي بيننا وبينه باب سري ومسحت دمعة ساخنة هبطت على خدي وجاءني صوتها عميقا مؤلما طفوليا كأنما قد استحالت ابنة ترتمي في احضان أم
– قلبي يؤلمني
أتعلمين ؟ عندما يشعر المرء بألم في قلبه؟ يصعب عليه استخراج الهواء المخزون داخله
يتمرغ في فضاء خانق
يشعر بالتيه ..بالغرق. بشعور شبيه بشعور المتسول في أولى محاولاته
تنفست بصعوبة وحاولت ترطيب شفتيها اليابستين بطرف لسانها فما أعانها .تركتها تفرغ همها لعلي استطيع الوقوف على ما يضعضع روحها وأمتعني رغم حزني عليها إحساسا الصديقة الذي منحتنيه
– التقيته بعد إنهائي امتحان الكفاءة في الشهر الماضي
– يوم ذهبت الى بغداد ؟ أنتِ وأبي؟
– نعم
كانت أمي عازمة في الحصول على الدكتوراه في الادب العربي بعد نيلها الماجستير قبل ثلاثة أعوام .لم افطن الى محاولة امي التغلب على هجمات أبي الرامية الى تحجيم تفوقها الفطري والى محاولتها التمسك بكينونتها التي يريد لها الاندماج بذاته لكنه لا يمتلك ادواته التي تمكنه من ذلك .فهو لم يكمل دراسته ولم يرتد الجامعة وليس لديه ميول فنية أو ادبية.حتى في كرة القدم لا نجده متحمسا مثلنا حين يخوض أسود الرافدين مباراة مع الخصوم
ولما عجز عن تسقيطها راح يقاتل بسلاحه الوحيد الذي يمارسه علينا جميعا. الاهانة,, التسفيه ..التعيير بعدم إنجاب الذكر
– كان صوته كذكرى بعيدة ..حين سمعته ظننت أني اسمع سنواتي الاربع في الجامعة حيث التقيته يوم جاء من كلية العلوم زائرا اصدقاءه
– كان لقائنا عابرا .جذبتني وسامته ..واناقته رغم ظروف الحصار التي جعلتنا نتخلى عن معرفة أخبار الموضة ونرضى بما تحت ايدينا من ثياب نتداولها ونغير من معالمها كل فترة, لكن ادبه كان اكثر ما لفت انتباهي
– كنت اعجب لنظراته التي كانت تحيط بي وترافقني كظلي .فلست الاجمل ولست الاكثر أناقة ولست ممن يخطر على بال أحد أن أكون موضع اهتمام حازم الراوي
تبسمت وكأن لحظات حبيبة الى قلبها تمر أمامها لم ارها يوما أجمل وأعذب من هذه اللحظة التي كانت تجالسني فيها وخصلات شعرها البنية تتدلى على جبينها المضيء رغم شحوبها وذبول سحنتها, فأمسكت كفها استحثها على المواصلة
– بقي يتردد على الكلية ,كل يوم الحظة في مكان ,عند باب المكتبة .في الحديقة الخلفية لقسمنا.أمام باب الاستعلامات .لا اخفيك كان شعورا لذيذا يغمر قلبي كلما رأيته وإحساس بالفرح يحتويني لكنني كنت استبعد أن أكون أنا محط هذا الاهتمام ,حتى نبهنني الصديقات وزميلات القسم الداخلي أن حازم لم يكن يتردد على الكلية بهذا الشكل رغم انه محط إعجاب فتيات بغداد اللواتي كان معظمهن يرجعن بالأصل الى مدينته من ذوات العيون الواسعة والقوام الاهيف والبشرة اللبنية
يوم وقفت معه تحت ظل شجرة نبق اصفرت أكثر اوراقها, كان متورد الخدين وهو يحاول ان يلملم نفسه ويصارحني بأعجابه ورغبته بالزواج .كنت احلق معه في عالم بعيد عن كل قيودي التي جلبتها معي وكانت تلازمني حتى في سريري وتحت دثاري
– كنت اشعر بأنني أتعس فتاة على وجه الارض وأنا أقتطع أجزاء من روحي وأقابل عرضه المغلف كهدية عيد ميلاد بغلاف أنيق من الذوق واللطف
– بم أجبته ماما؟
– قلت له ..أنني أكن لك كل الاحترام وأقدر مشاعرك تجاهي لكنني أعدك أخا ولا أشعر تجاهك إلا هذا الشعور.
لم أر دمعة من قبل تهبط بحزن كالدمعة التي هبطت من عينيها .
– لم يا أمي ؟ لم ترفضين الزواج بشاب له كل هذه الصفات التي تتمناها كل فتاة؟
لم حرمتي نفسك من السعادة ؟ ما السبب؟
– آآآآآه ربما لم تكن من نصيبي
– هكذا نحن عندما نضيع الفرص ونخطأ في اختياراتنا نتهم النصيب. لا أمي كنت مخطئة
اجبتها بانفعال وكنت متألمة لسماعي الحكاية لكنها فاجأتني بسؤال غريب
– مارأيك بأخوالك وجديك؟
– ولم السؤال ؟
– فقط اجيبي
– من أي ناحية
– من جميع النواحي
– لا ادري ..ولكن ..اظن انهم ….امي لا ادري ما تقصدين
-هل تعتقدين أن جدك سلمان واخوالك سيقبلون تزويجي بحازم الراوي ..؟
– ولم لا ؟ هتفت بانفعال ثم نظرت الى عينيها المعاتبتين وقلت بخضوع
– تقصدين لأنه سني ؟ ومن الانبار؟
هزت رأسها وانسابت دمعتان من عينيها واستفت الهواء وكأنها تحاول الخروج من ذاتها وقالت
– كنت دوما اظن ان ابي محق في كل افكاره وخياراته في تزويج على أسس عرقية ومذهبية ..كنت أظن ان هذا النوع من التكافؤ هو من يديم الحياة الزوجية
– وعندما رفضت عرض حازم الذي كان امنية كل فتيات الجامعة كنت اوهم نفسي بأنني متعالية على مشاعري من اجل قيم عليا
– وما كانت النتيجة ؟ انني اكتفيت بزواجي بشخص يلبي طموح الاسرة ومعتقداتها. ولا يلبي ابسط حاجات قلبي
– وعندما اجتاح داعش المدن السنية وسمعت عن قصص انفصال الازواج السنة عن الزوجات الشيعيات شعرت بالرضى واوهمت قلبي ان اختياري كان صائبا .فمن يدري ؟ لو كنا انا وحازم تزوجنا لفرقتنا الطائفية
لكن صوته الاتي من اعماق ذكريات دفنتها عن واقعي في ذلك اليوم عندما اكملت اوراق التقديم في الجامعة ومررنا انا وابوك في مول النخيل في الجادرية كان أشبه بصفعة تلقاها قلبي
-لقد لمحني من مسافة ليست بالقصيرة .بل عرفني من ظلي وخيال عباءتي وسنوات اجتاحت ملامحي
-نادى على اسمي وكأنه يستنجد بذكرى يريدها ولا يريد التخلي عنها
– انتظار. انتظار
-من؟ حازم الراوي؟
-كانت ملامحه الوسيمة قد ازادت وسامة ..البياض المخالط لشعره الخفيف والقامة الاربعينية الرياضية والقسمات التي رسم عليها الزمن بعض الخطوط التي زادته هيبة
-حازم الراوي معقولة ؟ عاش من شافك
– عاش من شاف زولج.. انــتذار
ضحكت حتى دمعت عيناي .لا ادري لم ضحكت .فرحا برؤيته؟ ..أم سعادة لإنه عرفني رغم مرور السنين ؟والسنون في بلدنا ليست كما في البلدان. فعامنا بمائة عام ..هم وحزن وآهات وخيبات
لكنه ناداني بطريقة امي وأبي ..انتـــذار .أتتصورين؟ أنه يتذكر جملة قلتها أمام مجموعة من الزميلات والزملاء أن ابواي أطلقا علية اسم لا يتقنان النطق به بشكل صحيح
انتــذار. حتى هذا الامر الذي محته ذاكرتي لم تمحه ذاكرته..
– وهل تحدثتما ؟
-تحدثنا كصديقين جمعهما موقف عابر وتعرف الى أبيك وسلم عليه وعرض علينا عزومه رفضناها متعذرين بضرورة السفر لكنه أخبرني بعبارتين ما كفاني معرفته لأعوام
– ماذا اخبرك
– قال إنه لم يذق طعم الحياة مذ رفضته وأنه بقي لسنوات يستمع لأغنية كاظم الساهر
– مثل أختك.. كلمة كالتهة ومشت دون انتظار مثل أختك ..وآني غير الصمت ما عندي اختيار
كان هذا اللقاء الطويل بمعناه كفيلا بأن يجعلني أستوعب عبارته
– فأنا الاخرى منذ تلك اللحظة التي وئدتها تحت شجرة النبق .لم اذق طعم الحياة
– ألم تتصلي به؟
– وما جدوى الاتصال ؟اذا كان الموروث قد فرقنا فكيف سيجمعنا الدين ؟وكل واحد منا تحت سقفه زوج وأسرة؟
-هذا كل شيء ذهب ولم يلتفت خلفه؟ قلت ذلك دون أن يدور بخلدي أن أبي لازال موجودا وأنها زوجه
– وما عساه يفعل غير ذلك ؟ كان لقاءا مدته عمرينا كنت أرى الـــ لماذا في عينيه الحنونتين
هاتك العينان هما من خيبا ظنوني ,,كنت أتمنى أن أجد فيهما نظرة اللامبالاة. الشبع .. الاستغناء ,لكنت ارحت يومها وقلت أن داعش حتما كان سيفرقنا وأن الطائفية ستجعلنا عدوين لكن النظرة قالت عكس ذلك . قالت أن الحب الصادق قادر على هزيمة الشر والحقد والكره
– قالت كنا لنكون أسعد أليفين يلمنا الحب ويجمعنا الود . ولكن
صمتت أمي وحنوت عليها وعلى آلامها وعلمت لحظتها أنها ليست مقاتلة كما كنا نظن طوال تلك الاعوام
– هل أنتِ حزينة الان لأنك فقدته؟ ولم تقاتلي لأجله؟
ضحكت وهي تمسح دموعها الحارة وقالت :
– ما كان لي أن أقاتل .. ما كان لي أن أفعلها مع جدك وأخوالك . وماكان لابنة سلمان النجفية أن تقترن بآبن الراوي السني .هكذا العرف وهكذا القانون .أعلم أنه عرف فاسد وقانون مصطنع لم ينادي به دين ولا مذهب لكن نادى به الناس وما يقوله الناس هو السائد لا ما عمل به نبي الشيعة والسنة
– لا تظني حزني إنما هو لفقده . بل هو لهشاشة حياتي ,فلوكان أبوك قد ملأ فراغ قلبي لما كانت ذكرى حازم الراوي إلا ذكرى عابرة. لكنني أبكي فراغي وخوائي لعشرين عاما ,أبكي حطامي وصراعي لأثبات وجودي ولو كان لي أليف لكان هو كل وجودي ولما خضت إيامي معاركا لإثبات الذات. سترحل ذكرى حازم الراوي .. وسيبقى ألمي لنفسي الخاوية
-أتعلمين قلت لها
– لن اتزوج إلا من يملأ كل حياتي .من أراقب تحول خصلات شعره يوما فيوم الى اللون الرمادي ..من يشاركني خطوط الزمن. من أرقبه ويرقبني في كل خطوة وكل التفاتة وكل همسة .من يكون صنوا لا ندا ياأمي
احتضنتني وطلبت أن آتيها بآخر منتج لأفكاري العجيبة في الطبخ .ومضغت ابتكاراتنا أنا واخواتي وهي تبتسم وعادت بعد اسابيع الى إكمال نشاطها إذ اجتازت امتحان الكفاءة وتم قبولها في جامعة بغداد لتكمل دراسة الدكتوراه .

الإدارة

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى