إشراقات أدبيةالقصة

مجموعة قصصية بعنوان ( جاءنا البيان التالى ) للقاص: مصطفى محمد علاء الدين بركات

( أم مختار )
ضمن مجموعة قصصية بعنوان ( جاءنا البيان التالى )

خرجت من بيتها ذو الدور الواحد ، تاركة بابها الخشبى مفتوحاً فهو أصلاً محطم و تدفعه أي قطة في الحارة ، و البيت خال من أى شىء ذو قيمة ، إلا أربعة أطفال و بنت هي أصغرهم فى العاشرة من عمرها ، و رجل يقال عليه أبيهم أو زوجها و هو لا يسأل عن زوجته إلا وقت شهوته، أما أولاده فلا يناديهم سوى : يا ولد ، يا زفت، فقد نسى أسمائهم يوم نسى لم خلقه الله فى هذا الكون و أعطاه العقل و الجسد

وصلت للمسجد اللتي اعتادت الذهاب له يومياً ، كانت تصلي جالسة خارجه و تفرش بعض المناديل و السبح و تعرضهم مع كرامتها للبيع لعل أحدهم يجود عليها بأية قروش لتسد جوع أولادها و تتقى غضبة زوجها الجائع العاجز عن محاولة القيام بدوره… إلا فى القسوة على من هم أضعف منه لعل هذا يحقق له نشوة السيطرة الزائفة على أي شيء في حياته اللتى لا يرى فيها سوى الطعام و النوم و دخول الحمام

و فجأة علا صراخ إحدى السيدات من مصلى السيدات ، حقيبتى، هاتفى، أي شخص يساعدني يا ناس …
لم تكن هذه أول مرة و لكنها الثالثة خلال الشهر – انتشر بعض رواد المسجد يتحركون بعشوائية ، و ينظرون هنا و هناك لعلهم يروا السارق واقفا منتظرهم في ركن ما!!
قال طفل صغير : لقد شاهدته ، خرج يجري من هنا
قال أحدهم : كيف كان شكله ؟
قال الطفل : طويل و يلبس جلباب .. لونه.. بنى أو اسود مش متأكد و انتفض قلب أم مختار و شهقت كأنما غرقت فى بحر عميق أو فى طريقها للغرق

عادت للبيت ، بعدما سارت فى شارع طويل لمدة نصف ساعة؛ لتوفر خمسة جنيهات ثمن ركوبها، فهذا المبلغ كفيل بسد جوع احد أبنائها برغيف و بقايا جبنة
و ما أن رأته أمامها : قالت له
أين كنت يا مختار ألم تخرج اليوم
مختار : خرجت مع بعض أصدقائي لأستنشق هواء نظيف
– و هل الهواء فى بيتنا غير نظيف ، أم ضاقت بك الدنيا كى تسرق عباد الله في بيت الله
– عباد الله ، بيت الله ، و نعم بالله يسمع من بقك ربنا و يشعروا بنا عباده بقرش من الألاف اللي معاهم، يصلوا و يصوموا و يلقوا بقايا طعامهم فى القمامة و يطعمون كلابهم فراخ و لحم مستورد
– عمر الحرام ما بيشبع يابني و ربك ما بينساش حد
– فعلا الحرام ما بيشبعش، هو فين الحرام و لا الحلال ، لا في ده ولا ده
– ابحث لك عن اى عمل أنت شاب و بصحتك
– لقد حاولت … و ماذا اخذت .. جنيهات …
اتعرفين أسعار الموبايلات ، هل تعرفين أسعار كلاب الحراسة ؟!
– اتركيني لحالي يا أمي
– إياك تذهب مرة اخرى للمسجد صدقني انا اللذى سأبلغ عنك
– أعطاها ظهره و خرج مرتدياً جلابيته البنية

لم تكن المرة الأولى ، فقد كذبت نفسها أول مرة و زادت شكوكها كيف كان يأكل و يشرب سجائر و كلما سألت عليه أحد ، تعرف انه لا يجلس إلا على الرصيف أو أصدقائه و ليس له عمل ، أحست به اول مرة فى المسجد و لكن لم ترى وجهه و لكن شعرت به ربما من جسمه أو ثيابه أو لعله قلب الأم ؛ و ثاني مرة تعجبت من أنه كان ينظر لها نظرة خائفة و هو يتلفت حوله و يخرج من باب المسجد متلفتاً حوله ، أما المرة الثالثة فقد رأت نعله المقطوع من الأمام أمام الأحذية قبل الصلاة ثم اختفى قبل خروج المصلين
ذهبت لأبيه فلم يرد عليها
عادت للمسجد ثانية ، و هى ترى الضحايا الذين خسروا ألاف الجنيهات من تعب العمل و أرزاقهم ، و ما كان يؤلمها أن بعضهم كان يعطيها صدقات و هي تعلم أن ابنها اخذ منهم الغالي من ممتلكاتهم التى ربما مازالوا يسددون اقساطها… كانت ترفض منهم الصدقات ظناً منها أن توفر لهم و لو واحد على عشرة مما انتهب منهم ، و لكنه كرر السرقة مرة أخرى و أصبح أكثر خبرة سواء فى إختيار الهواتف أو الأحذية الغالية جداً ،، و هذه المرة سرق هاتف الحاج مسعود و هو صاحب سلسلة محال تجارية و يذبح كل شهر عجل يوزعه على الفقراء و كثيرا ما إنتفعت منه أم مختار

عادت للبيت غاضبة شرسة انقضت على مختار و شتمته و جرته من ثيابه و نامت فوقه ، لم تشعر بنفسها الا و جلابيته البنى ممزقة قماشها بين أصابعها العجوز الجافة
قام مختار يجر جلابيته البنية الممزقة و هو يقول غاضباً :
هاتف بالاف الجنيهات … قطعة بلاستيك … و نحن كم ثمننا
على كم نتحصل فى الشهر و لا ربع ثمن هذا الجهاز …
إكتفت أمه بنظرة غاضبة محذرة و لم ترد عليه ، فليس عندها وقت للجدل ، فهى تعرف بفطرتها أن السرقة حرام و الاعتداء حرام و الرزق يقسمه الرزاق … انه إيمان العوام

تابع مختار
– تتذكرين عندما ذهبنا نأخذ منه شنطة رمضان
أتذكرين كلب الحراسة الذي كان عنده
ماذا كان يأكل … هياكل ، هياكل مع أرز و حساء
ماذا ناكل يا أمى ؟ أليست هذه افخم اكلاتنا
نحن لا نساوى كلابهم يا امى … لا نساوى كلابهم
و خرج تاركا امه يأكلها الخوف من الله … و على إبنها الأكبر

لم يتوقف مختار عن السرقة و كان على يقين من أن أمه يستحيل أن تؤذيه ، و حدد غنيمته هاتف جوال ذهبى لا يقل عن ستة ألاف جنيها
إنقض عليه و هم ساجدين خطفه كالصقر ، قفز خارج المسجد حافياً مسرعاً … و عند الباب إصطدم بأمه رغم مرضها و إنحناء ظهرها إلا أن إيمانها و رغبتها فى إصلاح ولدها ، جعلها تقف كالسهم أمامه
– لن تمر
– لن تصبح سارقاً يا مختار
– اترك ما ليس من حقك
– ابعدى عنى يا أمى ، ابعدى عنى
– اقسم بالله لن أتركك ، سأبلغ عنك ، سأسلمك لعامل المسجد

صرخ أحدهم حرامى حرامى ، أمسكوه
تحرك رجل يبدو كأنه من القوات الخاصة إلا أنه يرتدى بدلة سوداء و نظارة شمس .. و بقفزة واحدة قوية دكت سطح الأرض، اصبح أمام مختار نظر مختار يمينا و يسارا ، إلا أن الرجل ألقى قبضته على رقبة مختار بعنف و أمسكه … و فجأة إختل توازنه يبدو أن مختار دفع أمه ليتعثر بها الرجل القوى و يهرب مختار تاركا أمه التى على ساق الرجل الضخم … و على حافة الهاوية

أثارت وقفة أم مختار أمام اللص الشكوك ، خصوصا أن الذى تعرض السرقة كان مساعد وزير الداخلية و كان معه إثنين من الحراسات الخاصة ، كان معروف عنه أنه بلا قلب ، دينه القانون و عقيدته تعليمات الداخلية … فكان لابد من خيط أو ضحية و لم يكن سوى أم مختار ، التى تم إقتيادها للمباحث و لولا كبر سنها ، و صحتها المتدهورة لتعرضت لأشد انواع المعاملة التى قد تحطم مجرمين أشداء

-من الذي كنتى تكلمينه خارج
– المسجد ؟
– أين ذهب ؟
– شكله إيه اوصفيه انطقى ..
ساعات طويلة من التحقيق و التهديد و التخويف … بلا فائدة

كانت كل ذرة فى جسدها تهتز كأن زلزال بقوة ألف ريختر أصاب برج القاهرة الكبرى … كانت تنتفض و ترتعش ، لم تكن حتى تقول أنها بريئة كمن فى وضعها كانت فقط … تنهار فى البكاء لا تعلم هل هى خائفة على نفسها من بطش يد القانون التى تضرب بقوة مضاعفة لأن الذى تعرض للضرب هو أحد قادتها
أم كانت خائفة على مستقبل إبنها أن يصلوا إليه من طرق أخرى ، و لكنها لم يخطر ببالها مطلقا إختيار انها قد تقول حرفا يدين إبنها …تم حجزها على ذمة التحقيق مع التوصية بمعاملتها بأقسى معاملة فالموضوع ليس سرقة عادية
بل سمعة و هيبة الداخلية ….

انزوى مختار فى طرف البيت مرعوباً، كاد أن يضيع فى ثانية كانت رقبته بين يد هذا العملاق ربما لو قاومه كان قتله
.. و لن يبكى أحد على جثته سوى أمه – نعم أمه إنه لم يدفعها بل لقد رأها تلقى بنفسها متعمدة على الرجل الضخم لتنقذه نعم لقد شاهد أنفها تنزف من شدة إصطدامها المتعمد بركبة الحارس الضخم .. نعم انها أمى .. التى حاولت كثيرا أن تربينى على الدين و الأخلاق ، و الرزق الحلال كانت تنظف المزابل و روث الحيوانات ، لتوفر لنا فتات اللحوم مثل الكرشة و الفشة و تلك الأماكن فى البقرة التى قد تعف بعض حيوانات الشارع عن أكلها .. أمى التى عملت أسبوعا تمسح أرض الصيدلية عندما كنت مريضاً لتوفر لى الدواء … ماذا أفعل ؟ كان يمسك الهاتف بيده لم يبيعه سريعا كالمرات السابقة ، كان خائفا مرعوبا و قلقه يزداد كل لحظة
هل أسلم نفسى ؟ فيفرجوا عن أمى !
سيضعوننى فى السجن لسنة على الأقل
سأصبح مجرما فى الأوراق الرسمية
سيضيع مستقبلى تماماً-
حتى إن أردت التوبة فلن أستطيع ، ستكون نهايتى
إن أمى كبيرة لن يعاقبوها بشدة … هى حقا تجر قدميها من آلام الركبة المزمنة و تحنى ظهرها لتحاول أن تقف على الأرض أو تجلس لتؤدي وظيفتها فى الحياة. …لابد إنهم سيشفقون عليها
اراد أن يعرف أى شىء عنها … لعله يطمئن نفسه تضليلا …
و قطع صمته صوت سيارة شرطة تدخل الحارة لقد عرفوا بتحرياتهم بيت أم مختار .. لقد وصلوا لبيته
قفز مختار من النافذة المكسورة ، إختبىء بجوار صندوق قمامة ملىء بالشحم و الزيت و مخلفات الصناعة كان أفراد الشرطة يهددون و يتوعدون … و يقولوا لهم انه تليفون الباشا الكبير ، الباشا الكبير … مأمور القسم يهتز أمامه كالطفل المذنب ، انه مرشح لمنصب وزير داخلية .. تم اخذ كل من فى البيت حتى أختهم الصغيرة ، معهم فلابد أن يثبتوا الباشا الكبير حضورهم و لو ظاهرياً… و خرجوا تاركين مختار بين القمامة و الشحوم التى لاتزال إلا بماء النار … أو بالحرق
جلس مختار على الأرض يخشى أن يدخل البيت و يخاف أن يمشى بهذا الهاتف الغالى فلابد أن الخبر انتشر
ماذا افعل اين اذهب … ليس لى رغبة فى الطعام ، ليس لى أهل اشاكسهم أو حتى اتشاجر معهم لأننى إنسان .. جزء من عائلة لى أصل أهفو له و ليس نبت شيطانى
لا أمى المسكينة لن تتحمل … إخوتى … هذا الرجل العجوز
الذى نناديه ابى … إننى لم اعد سارقا بل قاتلا
لقد قتلت أمى بيدى لقد ألقيت باخوتى الصغار فى السجن
ليس هذا ما تستحقه أمى أن أدمر حياتها … فحياتها هى أولادها
لقد القت بنفسها فى النار من أجلى فهل اشكرها بأن القيها هى أولادها و سمعتها في النار … أى اجردها من أغلى ما تملك
ذهب إلى القسم مدفوعاً بقوة لا يعلمها ، ربما كانت بذرة غرست من سنين و لكنها لم تنضج بعد ، ذهب ممسكاً الهاتف كأنه قنبلة موقوتة كادت تدمر بقايا انسان شوهه الحقد و الفقر و الجشع ، و لكن ما زرعته فيه أمه من تضحية و إيثار بشكل عملى رآه أمامه حياً متحركاً ، لا خطب و أحاديث و شعارات
ترك فيه أثراً رغماً عنه … انه الأصل أنه التربية
– اتفضل يا فندم
أجاب صول شرطة شاربه كثيف أبيض
– ما هذا ماذا تريد ؟!
انه هاتف سيادة العميد الذى تبحثون عنه
الذى من أجله تحركت يد القانون …
و فتحت القضية
(تمت)
مصطفى محمد علاء الدين بركات
من كتاب ( جاءنا البيان التالى)

الإدارة

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى