إشراقات أدبيةالقصة

مـنذ خمســـة وعشــــرين عــــاماَ /قصة قصيرة بقلم /محمد على عاشور

قصة قصيرة بقلم /محمد على عاشور
مـنذ خمســـة وعشــــرين عــــاماَ
لبس أجمل ما عنده وخرج يقابل محبوبته بعد ما حلق ذقنه ، وأفرغ نصف زجاجة العطر – التي لم يستعملها منذ زمن غير قريب – على ملابسه وخرج يحلم بلقاء حبه القديم الذي لم يكن يتخيل – في يوم من الأيام – أن يراه فقد أنساه الزمان إياه منذ خمسة وعشرون عاما مرت على فراقها ، فقد تزوجت بعد أن أنهت دراستها بشاب جاهز – برضاها أم رغم عنها .. لا فرق !! وقتها أسودت الدنيا في وجهه ، لكنه بعد عدة أشهر أقدم هو أيضا على الزواج ، وبرغم ذلك ظل يتتبع أخبارها وشيئا فشيئا أقلع عن ذلك ثم بدأ ينساها .
أمس تقابلا في ” المترو ” كانت جالسة في وجهه وهو واقف يتصفح جريدة وتلاقت عيناه بعينيها مدة طويلة ، وخارت قواه وكل منهما يرمق الآخر . 
” أمعقول بعد هذا العمر ألقاها ؟! هل أتحدث إليها ؟ ، هل تريد أن تصافحني مثلما أريد ؟، هل بقي لي شيء من أيام الزمن الماضي عندها ؟ ” أسئلة كثيرة تهرول في جنبات عقله وهو مطرق يفكر في إجابة عليها. زادت ضربات قلبه ، وأحس أن روحه تسلب منه وتعود إليه ثم تسلب منه وتعود إليه، والدنيا تميد به حتى كاد أن تصيبه غيبوبة وهي تنطق باسمه وقد ارتسمت ابتسامة شفافة تحتوي وجهها ، أحس انه يسمع ضربات قلبه وهو يتقدم نحوها ، وقدماه لا تقويان على حمله وقد دارت به خيالات كثيرة وهبطت عليه فيها ذكريات الزمن الجميل الذي طالما افتقده وحن إليه . 
أحس الرعشة بيدها التي أطبق عليها بكلتا يديه وهو يصافحها وقد ازداد وجهها احمرارا وغلف صوتها برعشة ألهبته شوقا . 
جلسا يتحدثان في كثير من السعادة كأن كليهما وجد ضالته ، حتى نسيا محطتيهما ثم عادا في نفس المترو إلى مكان نزول كل منهما،وقد طلب منها أن يقابلها في مكانهما القديم في حديقتهما أسفل شجرة الكافور ، لكنها أخبرته انها لم تعد تستطيع ، فأنبأها وهو يشد على يديها أنه سيذهب وينتظرها غدا في الحديقة ، حتى لو لم تأت فسيذهب بمفرده لأنه اشتاق لمكانهما القديم ، وأنه يرجوها أن تذهب.
دخل الحديقة وهو يحلم بها أحلامه القديمة ، أخذ يتلفت يمينا ويساراً ، لقد تغيرت الحديقة كثيراً ، إنه لم يدخلها منذ خمسة وعشرين عاما مضت لكنه ، لم يجل بخاطره أن يصبها هذا التغيير في طرقاتها وأشكال الأشجار وأنواعها ، والمقاعد والبنايات الحديثة ، حتى الناس ليسوا كما كان يراهم قديماً . 
بحث عن شجرة الكافور حتى وجدها ، وقف يتطلع إليها ، ” ياه ” … لقد شاخت وتضخمت كثيرا كأنها عجوز ترهل بدنها ، إنه لا يستطيع أن يحتضنها مشبكا أصابعه ببعضها كما كان يفعل قديما ، اقترب منها يبحث عن القلب الذي حفره في يوم من الأيام على جذعها ، وكتب أول حرف من اسمه واسمها باللغة الانجليزية في بداية ونهاية سهم يخترق هذا القلب .
دار حول الشجرة وهو يدقق النظر حتى وجده ، تلمسه بأصابعه وهو حزين ، لقد تشوه القلب ولم يبقى منه إلا أثار . 
جلس يرقب زوار الحديقة من بعيد واضعاً ساقاً فوق الأخرى وأسند رأسه على الشجرة ، وبين الفينة والأخرى يرمق ساعته ، إن الوقت يمر رتيباً ، ” إنها لن تأتي كما أخبرته ” هكذا أخذ يحدث نفسه وهو ينظر في ساعته ، لقد بدأ الملل يحتويه ، لقد كانت دائماً تأتي قبله أما الآن فقد تركته متعللة بالظروف. 
قام ليلقى نظرة الوداع الأخيرة على المكان ، نظر إلى الشجرة وإلى القلب المشوه ، تلمسه بأصابعه للمرة الأخيرة وقبله لينصرف . 
التفت ليذهب ، أذهلته المفاجأة ، واحمر وجهه من السعادة ، إنها تقف خلفه ترقبه وتنظر إلى بقايا القلب ، وعلى وجهها أطلت ابتسامة لم يرى أجمل منها ، نظر إليها في شوق وهو يتطلع إليها تطلع الغريق إلى منقذه ثم جلسا سوياً على الأريكة القديمة أسفل الشجرة ، لاحت على وجهه ابتسامة أخذت تتوارى وهو يتفحصها ويعتب عليها وهي صامته تتفرس في وجهه.
ظل ينظر فيها وجهها في اشتياق .. ما هذا؟ ، إنه لم يرها تضع هذا الكم من المساحيق عندما كانت صغيرة ، هل حاولت أن تخفي عبث السنين ؟ ، .. ولم لا .. لقد حاولت أنا أيضا.. هكذا قال في نفسه .
إنه يريد أن يتكلم معها كثيرا لكنه لا يعرف ماذا يقول ؟ ومن أين يبدأ ؟ كأن لسانه قد خرس أو غير موجود في مكانه . 
تذكر أيام الزمن الماضي عندما كان يثرثر كثيرا فيضحكها ، ويحكي لها الحكايات فيدهشها ، كثيراً ما كان يطلب منها أن تغني، فتطربه وتشجيه . 
ذكرها بالأيام الماضية وحبهما وهي صامته تستمع إليه ، لقد أضاع الزمان حلو حديثه وخفة ظله ، لكنها ابتسمت ابتسامة فاترة لا تعبر عن شئ . 
وجدته يمسك يدها ، نظرت في عينيه دون حراك ، إنها ليست نفس اليد التي طالما أمسكتها وضمتها إلى صدرها ، لقد تغير ملمسها وأصابها شيء من التجاعيد ، وجدته يضغط يديها ويتحسسها بأنامله كأنما يبحث عن شيء فيها فتركته غير مبالية. 
عندما أمسك يديها ، وجدها باردة ، إنها نفس اليد التي طالما أمسكها وضمها إلى شفتيه وأمطرها بالقبلات ، لكنها اليوم وقد فترت منها حرارة الشوق ، ولهيب الحب هجرها ، وعبثت بها الأيام لم يستطع أن يرفعها إلى شفتيه ليقبلها . انتهى الكلام عن الذكريات، وتوقفت أنفاس الحديث، وشرد كل منهما في ناحية يتطلع إلى اللا شيء ، وغلف المكان بالصمت . 
أحس بها تسحب يديها من يديه وتستأذنه في الانصراف قام ليودعها ويشيعها بنظراته ثم جلس يتذكر حبيبته التي فارقته منذ خمسة وعشرين عاماً .

الإدارة

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى