إشراقات أدبيةإشراقات متنوعة

مقاربة بين الموروث و الوافد في قصيدة “جلباب التأويل” بقلم: “بولمدايس عبد المالك”

مقاربة بين الموروث و الوافد في قصيدة “جلباب التأويل” للشاعرالعراقي سالم الحمداني
الكاتب بولمدايس عبد المالك
بين مطرقة الحداثة و سندان التراث تسير القصيدة سيرا متأرجحا علّها تفلح تحت ضربات التأويل من جهة و انسلاب الفكر العربي بالريّاح الآتية من الغرب من جهة ثانية ـــ في التّوفيق بين النظرتين المتضادتين و الجمع بين الضرّتين المتخاصمتين .
و الشاعر يتخذ من العنوان “جلباب التأويل” مدخلا أساسيا في طرح إشكاليته لما يحمله هذا الأخيرمن دلالات فكرية و فلسفية قويّة و حاسمة ، جاعلا من الجلباب مضافا و من التأويل مضافا إليه لتوافقهما من جوانب كثيرة ، فإذا ما جئنا لنسبر غوره و نستكشف خباياها وجدنا توافقا و تعاضدا بين المضاف و المضاف إليه يخدمان فكرة الموضوع..
فالجلباب ثوب واسع تشتمل به المرأة يغطي صدرها ورأسها و التأويل صرف المعنى الظاهري إلى معنى أخفى تتقبّله قواعد اللغة العربيّة و وجه الشبه بينهما الإخفاء و التواري و التغطية و هذا المعنى هو المقصود من سياق هذا العنوان “جلباب التأويل” و ستنكشف أسراره أكثر عند تعاملنا مع متن القصيدة و مقاطعها المثيرة ، و العنوان دعوة صريحة في وجه أولئك الذين يتكئون على عصا التأويل بحجة الموروث و المحافظة عليه أو الوافد الجديد و محاولة طرح مقاربة جديدة للتوفيق بين النّظرتين المتصارعتين .
المقطع الأوّل :
يصوّر الشّاعر حالة الغربة الشّعورية التّي تسدّ عليه أفاق النّظر و تحرمه من الانطلاق الحر إلى أبعد نقطة من هذا الوجود اللامتناهي .. و بريشة رسّام بارع يرسم لنا لوحة نفسية و كأنّنا نراها رأي العين تعكس يده الممتدّة المنطلقة لتشقّ فضاء عوالم جديدة أكثر إشراقا و تحرّرا بعيدا من إكراهات جسده المسجون و المرهون داخل قضبان أسوار التّراث و نُسَخ التأويل القديمة الصفراء ..و اختار التعبير باليد لما ترمي إليه من دلالات فهي أي اليد السند و العضد لذلك الجسد المسجون بين أقبية الموروث ..و التّعبير باليد دون غيرها من أعضاء البدن ينمّ على بعد نظر و رؤية و قوّة حضور و غلبة و حسن استعداد و عدّة …كلّ هذه المعاني تندرج تحت مسمى اليد و أكثر.
و تعمّد استعمال “الخلع” لرمزيته الدينية لتناسبها مع السيّاق العام للقصيدة ؛ فالخلع فراق الزوجة بعوض يأخذه الزوج منها، أو من غيرها، بألفاظ مخصوصة، ولا يمكن للزوج أن يعود إليها و سمي بذلك لأن المرأة تخلع نفسها من الزوج كما تخلع اللباس من بدنها ..فالشّاعر يريد لهذا الزواج الذي طال أمده أن ينقطع حبله و لكن بالتراضي احتراما للعشرة الطويلة وتطييبا للنفوس و الخواطر ..و استعمل “الكوابيس” للتعبير عن الحالة النّفسية التي آلت إليها حالة الأمّة بإصرار البعض على التمسّك بالموروث دون إعمال للفكر و فتح لباب الاجتهاد ..إنّ ضرورة مواكبة العصر و تحت طائلة التفكير و التأمل و النظر جعل من يده تلك تقرر السفر في تلك العوالم دون إذن من جسده المرتهن و هو نوع من الخلع و التمرّد ..و لم تكن تحمل من زاد لها في هذا السفر إلا بعض تمتمات تاء متقطّعة ، و التمتمات هي التّلكؤ في إخراج الحروف من مخارجها كناية على قلّة بضاعته و زهادتها في مواجهة هذا الفكر الغربي الوافد الباهر أو ربّما يقصد الشّاعر بعض الأفكار التنويرية المتردّدة و المتوارية عن عيون التراث و منجله في غفلة منه و التي تحاول أن تجد لها وطنا آمنا تستقرّ فيه بعيدا عن عين الرّقيب و سلطان القديم .. و للتعبير عن تجذر ذلك الموروث و استفحاله و تحكّمه الشديد في النّفوس و العقول أتى بثلاثة رموز تعكس قوّة هذا الكابوس الرّابض و المتحكم في رقاب أتباعه و مريديه.. الدّسائس..القبور..النّذور..هذا الثلاثي المرعب المتسلّط المتجبّر…أمّا الدّسائس فمن ورائها عقول متسلّطة و أطنان من الأموال و الذهب و جيوش من المريدين الذين هم رهن إشارة شيوخهم إلى درجة التقديس و العبودية ..و أمّا القبور فهي إشارة إلى أضرحة شيوخهم الذين اتخذوا منهم وسائط تقرّبهم إلى الله زلفا و لجلب بركتهم و إرضاء شيوخهم الأحياء منهم و الأموات يوقظون الشموع و يذبحون النّذور و يقومون بطقوس تعبّدية ما أنزل الله بها من سلطان ..و هي من الشّرك المضلل الموروث فاستمرار عروش هؤلاء الشيّخ و وسطائهم و تواصل تدفقات الأموال متعلّق ببقاء هذه الطقوس و الزُرد و البدعيات و هؤلاء المخدوعين الجهلة من الأتباع و المريدين..
يدي تمتد لتشق الفضاء
بعيدا عن جسدي المسجون
تخلع عنها كوابيس جلبابها
تسافر دون إذن مني ،
في جعبتها بضع تمتمات
تحاول أن تواريها عن أنوف الدسائس
وترانيم القبور ،
تنثر دمها شآبيب نذور ،
المقطع الثاني:
من شدّة الهمّ الجاثم على نفسية الشاعر لم يعدْ يتحكّم في حركات أعضاء بدنه و هيئته النفسية الداخلية التّي تصدرعنها جميع التصرفات و السّلوكيات الظاهرية ..و قد يظنّ الرائي أو القارئ بأنّ سبب طرقه لرأسه إنّما هو نتيجة تفكير عميق أو تأمّل بعيد ..لا هذا و لا ذاك بل هو ردّة فعل لتلك الهموم الرابضة المحتدمة الأوار، المتقرّحة الجروح..
قرار حاسم صادم تطلقه يده الهاربة المتمرّدة “لن أعود” إلى تلك المرابع المورّثة ..إلى تلك الأشراك الطقوسية البدعية ..إلى تلك الخرافات المسيطرة المتحجّرة ..”لن أعود” حتّى أظفر بإبهامي المغتربة فاليدّ دون إبهام نصف مشلولة ..الشاعر يريد أن يسيح في مجاني تلك الأفكار الواردة و يسبر أغوارها و يميّز بين ثمارها الحلوة منها و المُرّة ..النافعة منها و الضّارة..هي رحلة استكشافية و مغامرة جريئة بعيدا عن مرابعه الأولى و مراتعه القديمة و تأثيراتها النفسية و السلوكية.
أطرقت مرة دون خشوع مني :
لن أعود
حتى أظفر بابهامي المغترب ..
و ككلّ رحلة استكشافية يتخلّلها حبّ المغامرة و التّطلّع و كثير من المفاجآت السعيدة و المحزنة و كمّ هائل من المعارف الجديدة المكتسبة و مدّ وجر بين الموروث و الوافد و بين انسلاب العقل و انبهاره أمام تلك المناهج الحديثة المدهشة و المنجزات الحضارية الخارقة العجيبة …
أي نبوءة اعتمرت نبضها ؟!
أي فضاءات تحملنا على جنح واحد ؟
والقيظ لهيب من رياح !
والمدلول يتنمر
على أرصفة الليل
بعد أن خير بين لونه وذاكرته !!!
قد تستفز الكلمات بنحيب المعاني
والفكرة متأرجحة بين الموت والرقص والظنون ،
والدال هام على دروب الحقيقة يتسكع
كالسكارى
يفتش عن شيطان بلا مكيدة
أو بيضة سقطت من فم التأويل !!!
وقلب ليلى ..
لا زال يتشبث
بمعشوق واحد
كلّ تلك التراكمات و الصراعات و الصور المتلاحقة تكشف عن مغامرة و صراع بين الدّال و المدلول .. صراع بين وافد صادم و موروث جاثم .. بين تنمّر مدلول متسلّط و عقلانية دال متحرّر..و تحت جلباب التأويل و المحافظة على القديم على رأي مجنون ليلى الرافض لكلّ النساء و المتشبّث بليلاه ؛ ففيها موته و فيها حياته و لا فرصة و لا مجال لمعشوقة ثانية في قاموس حياته ..و الشاعر يعدّ هذا النوع من التفكير و التوجّه من التعصّب المقيت و التحجر المميت و خاصة المتعلّق منه بالأفكار و المناهج و العقائد ..
و الشاعر يدرك خطورة اختياره لهذا النهج التّحرري الفكري المتحضر و يعلم بأنّه سيلاقي الأمرين من أجل تمرير أفكاره الجديدة في ظل تلك البيئة المتعصبة و مجتمع لفَظَه و نفض منه يديه ـــ يوصف بأحادية النظر و التأويل ؛ و سيصير حاله كحال متسكع سكران تتقاذفه الولدان بالأحجار و الفضلات و يتجرأ على سبابه و لعنه الصبيان و المجانين ..هو يعلم بأنّ ليله سيطول و يمتدّ و بأنّ فجره الصادق الذي ينشده دونه جهاد مرير متواصل و صبر جميل ..
و بين ثلاثية الرّعب :الموت والرقص والظنون ستؤول فكرته الجديدة المتحرّرة و بذلك يحدد مصيره الحتميّ بين ثلاث مآلات أحلاه مرّ ..موت محقّق يطاله من أولئك المتعصبين المتحجرين أو جنون في طرقات و شوارع المدينة مشيرا إليه بالرّقص أو شكّ دائم مستديم ..
و هذه المآلات الثلاث دلالة على أنّ المجتمع لم يتخلّص بعد من جلباب تأويله و إلا لكان اقترح لنا حلاّ رابعا متمثّلا في قبول فكرته الجديدة .. أو اقتراح حلا توافقيا يجمع بين الفكرة القديمة و الفكرة الوافدة و ترك الحكم للقارئ ولكن القارئ لا يظفر بمثل هذا الحلّ المفترض .
يا له من خيار صعب بعد أن خير بين لونه وذاكرته!!!كما عبّر الشاعر عن تلك المغامرة المحمومة ..
و عمد الشّاعر في مقاطع قصيدته النثرية إلى ركوب صهوة الفعل المضارع إشارة منه لاستمرار هذه الإشكالية الفكرية الفلسفية إلى لحظة كتابته لهذه الأشعار مع إمكانية إيجاد حلول لها إذا تظافرت الجهود و صدقت النيّات و توفّرت الشجاعة الأدبية في مناقشة و إثراء الموروث الفكري و الثقافي و الفقهي و العقدي حين قال:
يفتش عن شيطان بلا مكيدة
أو بيضة سقطت من فم التأويل.
القصيدة صرخة في واد و رجع صدى لرحلة شاعر عاشق للحرية و الانعتاق غير متنكرّ لأصوله و تراثه يحاول أن يغرس بذرة في صحراء قاحلة فارهة ..وقد نجح في توظيف فلسفة شعره و جمالياتها في بسط موضوعه و الدفاع عن قناعاته و الاستماتة و الثبات مستحضرا نهايته المأسوية التراجيدية من موت متربص أو جنون مستدام أو شكّ رابض .
و مرّة أخرى ينجح الشّاعر في إثارة موضوع حسّاس بلغة الشعر و الوجدان موظفا رجاحة عقله و موسوعية ثقافته و خبراته الحياتية و صدقيّة طروحاته ..
الجزائر في 23.02.2021
الكاتب بولمدايس عبد المالك
و هذا نص القصيدة كما وردت:
( جلباب التأويل )
يدي تمتد لتشق الفضاء
بعيدا عن جسدي المسجون
تخلع عنها كوابيس جلبابها
تسافر دون إذن مني ،
في جعبتها بضع تمتمات
تحاول أن تواريها عن انوف الدسائس
وترانيم القبور ،
تنثر دمها شآبيب نذور ،
أطرقت مرة دون خشوع مني:
لن اعود
حتى أظفر بابهامي المغترب..
أي نبوءة اعتمرت نبضها ؟!
أي فضاءات تحملنا على جنح واحد ؟
والقيظ لهيب من رياح!
والمدلول يتنمر
على أرصفة الليل
بعد أن خير بين لونه وذاكرته !!!
قد تستفز الكلمات بنحيب المعاني
والفكرة متأرجحة بين الموت والرقص والظنون ،
والدال هام على دروب الحقيقة يتسكع
كالسكارى
يفتش عن شيطان بلا مكيدة
أو بيضة سقطت من فم التأويل!!!
وقلب ليلى..
لا زال يتشبث
بمعشوق واحد.
………؟؟؟
—————–

الإدارة

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى