فلسفة الجمال
((مقامة الجمالية))
الدكتور/عبدالمجيد محمد باعباد
حكى لنا المفكر باعباد: عن جمال الكون المشهود، وروعة هذا الوجود، وجمال الإنسان المولود، وأصله المخلوق بطلف الخالق جل جلاله، ظاهر الكون جماله، باهي الجمال خلاله، فائق الوصف مجاله، رائع الطيف هلاله، مولج الليل جلاله، فالق الإصباح دلاله، ساطع اللون تلاله، ناصع الصفو جباله، ناعم الهواء هلاله، نابع الماء ناهله، هاطل المزن زلاله، كاسح الموج جزاله، مورق الأرض ضلاله، مودق السماء نزوله، سابغ الصنع في خلقه، عظيم الشأن مائله، عميم الرزق حلاله، معجزة العرب قرآن رسوله، صادق القول كلامه يقول جل جلاله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، وعلى هذا المائل، قادني منال التفكير في علم الجمال، وهو آية من آيات الكمال، وليس كل شيءٍ جميلٍ في حياتنا مكتمل الجمال فقط هنا طفيف شطره، والجمال الحقيقي كله، هناك وليس هنا،( سائر الجمال في جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، نعم هناك هو الجمال الحقيقي كله، وإنما أوتينا في حياتنا أجزاء بسيطة من هذا الجمال، حتى نعرف حقيقة الجمال والكمال كله لله، فهو وحده خالق الجمال، فلا نستطيع وصف جماله، مهما أوتينا من بلاغة،لن نصل إلى مستوى جماله، ونكتفي فقط بوصف رسوله: (إن الله جميل يحب الجمال)، فالجمال الإلهي غير الجمال البشري إطلاقًا لا نضاهيه، ولا نقدر نحيطه، ولكن نعيش مظاهره الجميلة في سائر مخلوقاته، نلاحظه في مختلف كائناته الجامدة والحية، ونحن البشر خلقنا من روح الله، أيضًا لا نغتر بما أوتينا من جمالٍ، فإن من سمات الجمال بأرضنا الغرور بالمظهر، وإلفات المنظر،واحكام الأسر، واحلال السعر، وادهاش البشر بالجمال شيء جميل جدًا فهو ملفت للمناظر، ومغري للمفاخر، ومثيري للمشاعر، ومصفي للخواطر، ومؤسر للعيون ومطرف حدقات الأبصار، فالعين تدمن الجمال، والقلب يبتهج من رونق الجمال، والنفس ترتاح من روعة الجمال، والعقل يندهش في حضور الجمال، فلولا الجمال لما أحدقت العيون وأنتم حين إذا تنظرون، إليها في شمش النهار ذو الأنواء، وتبلج القمر في كبد السماء، وتراقص الأسماك تحت الماء، وروعة الأرض عند تموج البحار، وجمال السماء خلال انهمار الأمطار، وصفاء الجو بالأنظار، وجمال الوجود بالأنوار، وجمال الروض حين تترنم الأطيار، وامتداد الجمال في تدفق الأنهار، وتبلج الأسحار، وتفتح الأزهار، وتهدل الأشجار، وتلون الأحجار، وجمال الورود بتنوع الثمار، والزهور المقطوفة بالباقات، وجمال الحشرات بأحجامها وأشكالها، ورفرفت الفراشات بأجنحتها الملونة بألوان الحياة والطيور المغردة على أغصان الحدائق الغناء، والخمائل الفيحاء، والرياض الغناء، والجياد الدهماء، وجبال الدنيا الجميلة بجمال أصواتها العازفة ألحان الحياة، والمباحة في حرم الجمال، فما أجمل الأنماط المعسجدة، وما أجمل الأشياء المتفردة شكلا ولونًا ونوعًا، وما أجمل المناظر الموجودة في صمت الوجود تكتسي حلل البهاء، وتزدهي رونق النماء، وتظهر غاية الصفاء، وما أجمل الأفكار المجردة عن الهوى، وما أحلى المبادئ المورقة، والأراء المنمقة، والضمائر الصادقة، وما أجمل عذوبة الألسن الناطقة، وما أجمل العيون المدققة عشق الجمال، فالجمال لا يوصف في الأجسام، ولا يجسد في الأشكال وحسب، فجمال الأفكار والأخلاق وجمال الأذواق والنفوس أنفس وأجمل وأفضل، وإن كانت الماديات والمجسمات والأسكال والمحسوسات والملموسات تفضل لروعة الأنظار الملفتة للتأمل والمحجمة دهشة التكلم عن وصف جمالها ولولا جمال الورود في الحدائق الفيحاء والرياض الغناء لما أتخذت الزهور والورود منظرًا للزينة وقدمتها البشر كهدايا جميلة عند الأفراح، لأن الأرواح تحب رؤوية الجمال، وأرواح البشر تتعطش إلى الجمال كما تتعطش إلى الماء، والذي خلق هذه الأرواح جميل يحب الجمال، ولكن يجعل الله في هذا الحياة كل شيء جميل، بل اعطانا جزءً واحدًا من الجمال لنكثرة التدبر والتأمل، وندرك جمال الوجود فنخضع بالسجود لله وحده خالق كنه الوجود بالجمال فهو رب الكمال، فلو كان كل شيء جميل في هذه الحياة لما كان للكمال معنى، وما كان للجمال ذوق، لأن نفوس البشر شهوانيه بطبيعتها، وجميلة بفطرتها، وتحب الأشياء الجميلة لذلك أعطيت شطرًا واحدًا من الجمال حتى تميز كل ذي جمال فما أجمل الوردة الفاتحة بغصنها والفائحة في بستان وريف بالأغصان الخضراء والرياض الناظرة والزهرة الحمراء والصفراء والبنفسجية والتي خلقت لتكسي العين نظرة وتشنف الأنف عطره وتسعد القلب بهجة وتحلي الفم مذقا رطبا وتشدوا بالنفس طربا وتكسي الأرض ربيعا خصبا فتدبر معنى الجمال في هذه الآيات من سورة عبس (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا(27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)، ذلك متاع الحياة الدنيا فقد قال ربنا عز وجل: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾فالجمال أنواع وأصناف لا نقدر احصاؤه ببعض الأوصاف ليس الجمال بالأجسام وحسب، بل بكل شيء جمال هناك جمال الكلام، وجمال البيان، وجمال المكان، وجمال الزمان، وجمال الأيام، وجمال الأعوام، فإنك تقول عام جميل ويوم جميل وذلك لجمال روحك وصفاء شعورك فالزمان هو الزمان وإن كان المكان يوصف جمال الأشياء الظاهرة التي تتغير مع مجريات الزمان لكن جمال الباطن أعظم وأبهى من جمال الظاهر فجمال الأوراح وجمال النفوس من مشاعر وحنين وحب وشوق وخلق وغيرها لا توصف بوصف رائق لأنها معنوية لا نلتمسها بل نحس بها فكم من قلب مطرب وخاطر منزعج يرى المكان المبهج ليس بجميل وذلك لأن معيار الجمال وتقديره ومعرفة جوهره يكمن في النفوس قبل المنظر المحسوس فالمشاهد هي المشاهد والمشهد هو المشهد لكن تختلف العيون من حيث مدى النظر وتختلف القلوب من حيث الإبصار فكم من إنسان حرم نعمة النظر لكنه لم يحرم نعمة البصر فالإبصار من البصيرة ومكانها القلب لذلك سمي الإنسان الأعم بالبصير لأنه يدرك الأشياء ببصيرة قلبه فيوصف الشيء الجميل أحسن من الإنسان الكامل النظر معظم الناس متكل النظر وقلبه يخلو من البصيرة فلا يدرك حقيقة الأمور لأنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ..فجمال الشعور لا يوصف وجمال العقول لا يعرف إلا بجمال البصيرة وعمق الدراية قال المفكر بهذه الفلسفة وهو كاتب هذه الحروف المنسفة من مشكاة الإقناع والنابضة من منبع الإبداع وهو الأديب باعباد يقول: ليس كل جميل في نظرك جميل كما تظن حينما تنظر إلى مشاهد لا تكون جميلة إن كانت في معصية الخالق بل هي منافية لأخلاق الجمال التي ينبغي أن تكون في حدود الجمال المسموح لغريزة الروح التي تتغذى على فطرة الكون وتسبر روحها من وحي الدين فكم من الأشياء الجميلة هي قبيحة إن كانت من جمال المعاصي المرتكبة أو من أهواء النفوس المحبة للخروج عن قاعدة الفطرة السليمة والقيم العظيمة التي يقوم عليها الجمال فالنفس بطبعتها أمارة بالسوء إلا من رحم ربي فكم من جميل هو أقبح شيء على الوجود إن كان منافي لحقيقة هذا الوجود وكم من قبيح هو من أجمل الأشياء إن كان من ثوابت الكون وسننه العظيمة فالحياة ليست جميلة بظنك إن كانت أمامك بئيسة وشقية وتعيسة ولكنها جميلة في نظر غيرك إن كانت في نعيم وهناء وسعادة لكن طبعية المعتقدات لها ثوابت وطبيعة الأشياء لها استثناءات وطبعية المشاعر لها متغيرات وطبيعة النفوس لها مزاجات تتغير في كل وقت وحين ومشاعر النفس البشرية ليست مستقرة والمبادئ المعنوية ليست ثابتة بل لها استثناءات فالتذلل في طاعة الله عباده والإلحاح عند مناجاته فلاح كذلك من الذل رحمة عندما يكون في طاعة الوالدين ومن الخوف شجاعة في مواقف الحذر ومن الشجاعة خوف عند الخطر ومن الكذب منجاة في موقف الحرب ومن دواعب الحب كذب ومن الصدق مهلكة في بعض الأفعال ومن السحر حلال عندما يكون في لغة البيان ومن العلم جهل إذا انطوى على الكتمان كذلك السكوت كلام في لغة القبول والصمت كلام في لغة الأحاسيس والإشارة كلام في لغة المشاعر والكلام يتجاوز عن معناه إذا أصبح هذيان ومن العزم هزيمة إن كانت وسيلة إلى الانهزام ومن النجاح فشل إن زاد عن حد النضج فهناك ثمرة بازغة وثمرة ناضجة وثمرة يانعة فالبزوغ لا زال في أول مرحلة من مراحل النجاح والينوع آخر مرحلة من مراحل النجاح فالوصول إلى مرحلة الينوع هو في الحقيقة فشل وفساد لأنه زاد عن الحد الطبيعي له فكم من ثمرة يانعة يرمى بها في(الزبالة) وكم من فكرة ناضجة جاوزت حدها فتحولت إلى فكرة متتطرقة وكم من شهوة وصلت إلى حد الترف وكم من نجاح وصل إلى درجة الشرف ثم تحول إلى فشل معترف به أمام مجتمعات تقترف الجهل بوسائل العلم وتحارب العلم بوسائل الجهل فكل نجاح ليس نجاحًا جميلا كما تظن إذا جاوز الحد الطبيعي وهو النضوج لذلك يجب أن تقوم الأشياء والمعتقدات والتصرفات والأقوال والأفعال على مستوى واحد وهو الوسطية في الجمال لا زيادة فيها ولا غلو ولا نقصان بل الوسطية هي تمام كل بنيان حتى في الجمال إن زاد عن حد الوسطية وما زاد عن تبهرج الجمال فهو ماذر عن نظر العين لأنه ازداد عن تبهرج الجمال وتحول إلى منظر مزعج بكثرة الأوان التي أخرجته عن حده الطبيعي وكم من مذاق حلو يتحول إلى ماسج في طعم اللسان لأنه إزداد عن حد الحلوة الطبيعية عندما تتذوق شيء حلو وتتذوق بعده شيء آخر حلو يفسد المذاق عندك لأنك لم تراعي مذاق الجمال خلطت شيئين ذو طعم واحد لذا ينبغي الأخذ بمبدأ واحد وهو الوسطية في كل شيء قال الأديب باعباد: جمال الألوان ليس في رونقها بل في تنوعها وأجمال الأحجار بتعددها وجمال الأرض والطبيعة بطبعتها التي خلقت عليها من نجوم ومجرات وشمس وقمر وجبال وأنهار وبحار وثلوج ومياه وأرض وكثبان وتراب وسماء وسحاب وضباب وغازات وغيرها وتكون جميلة بمظاهرها التي نرها أو لا نرها بل نحس بها مثل الريح والهواء والنسيم والنور والظلام وتكون جميلة بأصواتها التي نسمعها وروائحها التي نستنشقها ولكن لا نرها بل نحسها كذلك مذاقاتها التي نتذوقها وتكون جميلة أرض الطبيعة بكائناتها وحيواناتها وحشاراتها وطيورها وتكون جميلة بأشكالها وتضاريسها ومناخها وخضرتها وتدفق أمواجها وبروق برقها ورعود رعدها وخرير مائها وزفير ريحها ونسيم هوائها وبرودة جوها وحرارة نارها وكل هذه الأشياء هي من صفات الجمال ومقومات الحياة وقبل الوصول إلى النهاية قال المخبر بهذه الحكاية لا نستتطيع وصف الجمال بكلمات ولا نستطيع تقدير الجمال ببعض السمات وإنما تتطرقنا إلى لمسات فكرية بهذه المقامة السردية فالجمال يتعدد والجمال يتجدد والجمال لا يمكن أن يتحدد على إطار معين أو شكل معين أو لون ملون بل كل شيء وجد في هذه الحياة له سمات معينة من الجمال فعندما تتذوق المأكولات تتلذذ بمذاقها وعندما تنظر إلى الأشياء تنبهر من مظاهرها وحين تنظر إلى الأشكال تتعجب من شكلها وحين تلحظ المشاهد تندهش من مشاهدتها وكذلك الأخلاق عندما تسلك مبادئها تستمتع بإنفردها عن الأخلاق السلبية فما أجمل جمال الأخلاق وما أجمل جمال الأذواق وما أجمل جمال المشاعر وما أجمل جمال الخواطر وما أجمل جمال الأحاسيس فهي نفائس النفوس ومكانها في الروح لذلك كن جميلا ترى الوجود جميلا كن جميل النفس قبل أن تكون جميل المنظر كن جميل القلب قبل أن تكون جميل المظهر كن جميل الروح قبل أن تكون ذو زهاء ووضوح وعليك أن تهتم بجمال المعنويات قبل جمال الماديات وهاك قول ماضي أبو إلياء:
أيّها الشّاكي وما بك داء كن جميلا تر الوجود جميلا
والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئا جميلا.
ختامًا :ثلاث وصفهم الله بالجمال
صبر جميل ، هجر جميل ، صفح جميل
فأصبر بلا شكوى و أهجر بلا أذى
وأصفح بلا عتاب .
فيا من تقرأ حروفي الآن خذ ما تراه جميلًا ودع ما تراه رذيلًا وأن أعجبك جمال يوسف في هذا الأسلوب فلا تندهش فعندي حزن يعقوب فيا رب أسعدنا بجمال العقول والقلوب:
فمقامتي مذ فارقت كتابتها
لم يبرح الدمع من عيني سكوبا
كأنها يوسف في الحسن إذ خلقت
لفظا وعندي خزن يعقوبا…..
أعجبني
تعليق