القصة

مكافأة دائب…… فادي زهران

غسّان رجل أربعيني يعمل سائق شاحنة كبيرة ، ينقل البضائع بمختلف أنواعها بين المدن ، يعبر الحدود بين الدّول في معظم الأحيان ، شاحنته ملكه ، فقد اشتراها بعدما ورث بعض الأموال من والده الذي توفي مؤخراً ، يعتبر نفسه ك الطّائر الذي يحب أن يجوب و يتنقل دون أن يقيّده أحد ، ربّما هذا هو السّبب الذّي جعله عاكفاً عن الزّواج حتى هذه اللّحظة ، كان غسّان مؤمناً بأنّ لكل إنسان في هذه الدّنيا فرصته ، و لابدّ أن يسعى لكي يحصل عليها مهما كلّفه الثّمن ، فليس شرطاً أن يكسب الانسان فقط من مجال عمله أو دراسته ، فلو كنت جملاً و سنحت فرصتك في البحر عليك أن تتعلّم السّباحة و تقفز .

كان غسّان معتاداً على التّوقّف في عدّة استراحات أثناء السّفر لاستعادة النّشاط و تناول الطّعام و الشّراب ، و بصحبته غانم و جواد ، لطالما تشاركوا طريق السّفر و النّقليات ، كانوا دائماً يتناقشون كثيراً في أمور حياتهم ، لكن غسّان يحب أن يستعرض عضلاته الفكرية و يتحدّث دائماً عن قدرته على اقتناص الفرص ، غسان صاحب طموح كبير ، يحلم بتوسيع عمله ، و امتلاك العديد من الشّاحنات و شراء مختلف وسائل النّقل و العمل في شتّى المجالات ، بينما رفيقاه كانا مقتنعين بوضعهما و لا يفكّران كثيراً أو أنهما كانا يبدوان هكذا أمام غسّان ، كما أن غسّان كان يسخر من قناعتهما بوضعهما محدود المغامرة و السّعي .

في إحدى المرّات بينما غسّان يتناول طعامه الّذي حضّره بنفسه في بيته ، رنّ هاتفه ، ليجيب غسّان : ” مرحباً ، من المتحدّث ؟ ” ، أجاب أحد الأشخاص بصوت فيه بحّة شديدة : ” سأنتظرك أيّها السّائق في المنطقة الحرّة عند السّراب في الأحلام و الأجر مغري جداً .. لا تتأخّر ” ، ردّ غسّان : ” لم أفهم ، من أنت ؟ و عن ماذا تتحدّث ؟ ” ، كان الخط متقطّع و مشوّش ، استمر غسّان في محاولة أن يعرف المتّصل ، انفصل الخط ، و انقطع الاتصال ، فكّر في معاودة الاتصال أكثر من مرّة لكن الرّقم كان خاص ، و بعدها اختفت الشّبكة ، عندها أيقن أنّه لا فائدة ، احتار غسّان كثيراً و ظلّ يفكّر في ذلك الاتصال ، و حاول أن يتذكّر و يحصي المواعيد الخاصة بنقلياته المقبلة أو حتى السّابقة ، فلم يستدل على شيء ، و لم يعتد على الاتّفاق بخصوص النّقليات عن طريق الهاتف ، بل كان الاتفاق دائماً وجهاً لوجه .

بينما غسّان منشغل البال ، طُرِقَ باب البيت ، فتحه ، كان الضّيفان هما غانم و جواد في الزّيارة المنتظرة الأولى لبيته بعد عدّة وعود ، استقبلهما بحفاوة ، أحسن واجب الضّيافة ، أخبرهما بالاتصال المحيّر ، قال غانم : ” ربّما كنت قد اتّفقت مع أحد الأشخاص لكن من شدّة تعبك قد نسيت ذلك ” ، ردّ غسّان : ” مستحيل ، فأنا غسّان الذّكي ، لا أنسى أحداً تحدّثت معه أبداً ، و خاصّة في مجال العمل ” ، قال جواد : ” هوّن عليك يا غسّان ، لم لا تذهب إلى المكان و تقطع الشّك باليقين ؟ و لن تخسر شيئاً ” ، ردّ غسّان : ” لعلّه يكون اتصال بالخطأ ، ربّما لم أكن المقصود ، و أخاف أن أضيع وقتي بلا أي فائدة ، لكن في نفس الوقت أخشى أن يكون هناك فرصة و تضيع عليّ ، أتعلمان ؟ أفكّر بالذّهاب ” ، قال غانم : ” ألم تدقّق في عبارة ( عند السّراب في الأحلام ) ؟ ربّما كان أحدهم يمازحك ؟! ” ، ردّ غسّان بسخرية : ” فليكن في الأحلام ، أو عند السّراب ، المهم أن هناك فرصة ، و الفرصة تعني وجود أموال وفيرة تساعدني على تلبية طموحاتي الكبيرة ، فأنا غسّان و ليس غانم أو جواد ” ، ساد الصّمت طويلاً ، ثم قال غانم : ” هل تريد أن نذهب معك كي نساندك ؟ ” ، و قال جواد : ” نعم ، ما رأيك أن نرافقك ؟ ” ، ردّ غسّان : ” لا ، لا أريد أن أتعبكما معي يا رفيقي السّفر ” ، و هكذا انتهى النقّاش بينهم بالاتفاق على ذهاب غسّان وحده إلى المكان .

في اليوم التّالي استيقظ غسان باكراً و ذهنه شارداً في ذلك الصّوت المبحوح ، تجهّز ، ركب شاحنته بسرعة ، كان الطّريق فارغاً ، و الضّباب الكثيف يكاد يحجب الرؤية ، فكّرَ بالعودة ، لكن طموحه الكبير دفعه إلى عبور الطّرقات بسرعة كبيرة ، لَمْ يكن هناك أحد في الطّريق ، استغرب غسّان كثيراً ، فاليوم يوم عادي ، لا عيد ولا أيّ عطلة رسمية ، سار طويلاً ، فجأة وجد أمامه عبارة مكتوب عليها ( عند السّراب ) مع سهم يطلب منه التوجّه إلى اليمين ، حيث كانت هناك منطقة صحراوية ، تردّد غسّان ، توقّف قليلاً ، بعدها قرّر المجازفة ، سار مدّة ثلاث ساعات ، كانت الصّحراء تغطي المنطقة ، بعدها ظهرت واحة جميلة مليئة بالأشجار الغريبة بأشكال و ألوان برّاقة ، و أقواس قزح تملأ السّماء ، و بيوت مصنوعة من السّكاكر اللّذيذة ، و نهر صافٍ يُظهر مخلوقات غريبة كبيرة لكنها تشع نوراً و لمعانا ً تسبح داخله ، و أصوات تعلو بقول : ” الفرصة تصنع حياة جميلة ، و بدون فرصة لن تصل إلى مرادك ، لكن لكل شيء ثمن و مقابل ” ، بعدها اختفى كل شيء و عادت الصّحراء تسيطر على الأجواء ، و ما أن شعر بالبرد الشّديد حتى وجد نفسه أمام بوابة كبيرة مكتوب عليها ( المنطقة الحرّة ترحّب بكم ) ، دخل إلى المنطقة الحرّة ، شاهد معالمها و محلاتها و جدرانها و تَذكّرها ، كانت نفس المنطقة الحرّة التي اعتاد على الذّهاب إليها لكنّه استغرب من وجودها في هذا الموقع ، سار بالشّاحنة طويلاً ، مراراً و تكراراً ، لعلّه يجد أحداً يقابله ، لكن لا أحد ، كانت الجولات عديدة و متكرّرة ، متأمّلاً أن يصادف أحد ، لكن دون جدوى ، شعر غسّان بيأس شديد بعد محاولات و جولات عدّة ، فجأة اشتدّت الشّمس دون سابق انذار ، و ارتفعت الحرارة داخل الشّاحنة ، كانت المقاعد تغلي ، شعر غسّان بالغضب و العطش الشّديد ، تفكيره في الحصول على أيّ فرصة جعله يسير كالمغيّب ، و أثناء سيره بالشّاحنة لمح بقالة صغيرة في نهاية المنطقة الحرّة ، لم يكن ينتبه لها في السّابق ، قصدها فوراً ، نزل من الشاّحنة ، كانت البقالة بباب متآكل يكاد يسقط من شدّة الصدأ ، و واضح أنه لم يُنظّف منذ وقت طويل ، لدرجة أن غسّان ركله بقدمه ركلة بسيطة فسقط الباب على الفور ، لم يجد أحداً في البقالة ، ظنّ أن البائع منشغل في ترتيب البضائع ، كانت بقالة قديمة المحتويات ، تذكّر ذلك فقد كان يشتريها و هو صغير ، فالمعلّبات بِحُلّتها القديمة قبل عشرات السّنين ، و كذلك أكياس السّكر و الأرز ، لاحظ غسّان ذلك فتناول إحدى علب الفول فوجد أنها ما زالت صالحة للأكل من تاريخ الصّلاحية ، استغرب ، بعدها فتح الثّلاجة الّتي كانت مليئة بالعصير المنسكب المتجمّد على رفوفها و أخذ عبوّة مياه صغيرة ، أخرَج ورقة نقدية من جيبه ، وضعها على الطّاولة و قال بصوت مسموع : ” تفضّل يا عم ، هذا ثمن عبوّة المياه ” ، و غادر البقالة بعدها ، ركب الشّاحنة ، قبل أن يشغّل المحرّك ألقى لمحة سريعة على البقالة لعلّه يشاهد ذلك البائع ، فوقع نظره على لافتة بجانب البقالة مكتوب عليها ” بقالة الأحلام ” ، لم يدقّق كثيراً ، تابع سيره ، أصبحت البقالة خلفه ، ابتعد قليلاً ، موقناً أن ذلك الاتصال كان بالخطأ ، و ظهر على وجهه الاستياء الشّديد ، بعدها نظر في مرآة الشّاحنة فشاهد شخص كبير السن يسند نفسه بجانب الجدار عند البقالة التي أصبحت خلفه ، و يلوّح له بيديه ، ظنّ غسّان أنّه صاحب البقالة ، أوقف الشّاحنة و نزل ، لكن سرعان ما اختفى ذلك الرّجل ، تعجّب غسّان ، عاد متوجّهاً إلى البقالة ، فوجد أحد المخلوقات الغريبة بلون رمادي داكن بثلاثة عيون زرقاء و فم كبير دون أنف مع قرنين أبيضين و أذنين كبيرتين حمراوتين مع أطراف تملك مخالب طويلة ، كان يصدر صوت فحيح غريب ، يرتدي رداءً شفّاف اللّون يظهر تفاصيل جسمه النّحيل الذي يشبه الحراشف ، و كان يجلس على كرسي مهترئ يكاد يحمله خلف طاولة البيع ، و ما أن رآه غسّان و شهق شهقة عالية الصّوت حتى تحوّل ذلك الكائن بسرعة إلى شكل الرّجل كبير السّن الذي رآه مسبقاً يلوّح له ، بعدها شعر غسّان بالرّعب الشّديد و تغيّر لون وجهه و بات يتصبّب عرقاً ، و وقف صامتاً دون حركة كأنّ على رأسه الطّير ! ، عندها قال ذلك الرّجل : ” ما بك يا غسّان ؟ لِم أنت خائف ؟ ، لقد أشرت لك بيدي حتى أخبرك بأنك قد دفعت لي زيادة عن حقي ، و أنا لا أحب استغلال أحد ، هذا الباقي ، تفضّل ” ، و أمسك بيد غسّان و وضع فيها قطعتين نقديتين ، كانت يده ملمسها جاف جداً و صاحَبها ضحكة صفراء مستفزة ، لم يهتم غسّان كثيراً ، بل كان كل تفكيره مبني على ضرورة مغادرة البقالة في أقصى سرعة ، غادَرَ فوراً ، و ما أن خرج من البقالة و اقترب من الشّاحنة ، سمع صوتاً يناديه : ” الشّكر مجاناً ، و يبدو أنك بخيل ، لِمَ لَمْ تشكريني ها ؟ لِمَ ؟! ” ، أراد غسّان أن يلتفت و يشكره و يعتذر أيضاً ، لكنه خشي أن يرى ذلك المخلوق الغريب ، تشجّع قليلاً ، تمالك أنفاسه ، و عاد إلى البقالة مغمض العينين ، وصل إلى الباب و قال : ” شكراً يا عم ، لا تؤاخذني ، فأنا على عجلة من أمري ” ، لم يسمع ردّاً بعدها ، عندها حاول فتح عينه اليسرى ليجد نفس المخلوق أمامه يقول : ” لا عليك يا غسّان ، فقد كنت أمازحك ” مع ضحكة غريبة أطلقها ، و بعدها تحوّل إلى ذلك الرجل العجوز ! ، عندها جنّ جنون غسّان و هرب من البقالة و ركض نحو الشّاحنة ، ركبها ، حاول تشغيل المحرّك ، لكنّه رفض أن يعمل ، زاد غضب غسّان و خوفه ، و أخذ يضرب على مقود الشّاحنة ضربات قويّة متكرّرة ، و يقول : ” هيّا ، هيّا أيّتها الشاحنة البائسة ، لِمَ لا تعملي ، لِمَ ؟ ” ، ليجد ذلك الرّجل كبير السن يجلس بجانبه في الشاحنة دون أن يفتح الباب ، كانت الدّهشة و الرّعب في أعلى مستوياتهما ، خصوصاً عندما كان ذلك الرّجل يتحوّل تارةً إلى مخلوق غريب عجيب ، و تارةً أخرى إلى هيئة الرّجل كبير السّن ، و لم يكُف عن الضّحك ، و بصوت مرتعش قال غسّان : ” مَن أنت ؟ ماذا تريد مني ؟! ” ، ردّ الرّجل : ” لا أريد منك شيئاً يا غسّان ، لكنني أعلم أنك تحب اقتناص الفرص ” ، قال غسّان : ” مِن أين تعرف اسمي ؟ ” ، قال الرّجل : ” كنت أراك دائماً في جميع الطّرق أثناء سيرك في شاحنتك ، فأنا أحب التنقّل بين الطّرق ، خاصة الفارغة منها و بالذّات في سواد اللّيل ، كما أنّني طموح مثلك ، أريد مساعدتك ” ، و بصوت مرتفع مهزوز دون تفكير أجاب غسّان : ” لا أريد مساعدتك ، فقط أخرج من شاحنتي ” ، عندها اختفى الرّجل ، و انطلق غسّان بعدها نحو بوابة المنطقة الحرّة ، و كان يرتعد خوفاً و يتصبّب شلال العرق في جبهته و جسده .

وصل إلى بيته بصعوبة بالغة بعد تقلّب الطّقس الغريب ، كان واضح اشتداد الضّباب و تغطيته على الأفق ، و هبوب الرّياح القويّة في الطّرقات ، و أصوات الرّعد تزداد ، و البرق ينير الطّريق بعد اختفاء الشّمس بين السّحب ، أغلق باب البيت بالعديد من الأقفال ، قفز على فراشه ، وضع العديد من البطّانيات على جسده الذي بات يرتجف بشدّة ، وحاول الاسترخاء ، لكن مظهر المخلوق الغريب و ضحكته لم يفارقان عقله ، حاول أن يسترجع المشاهد و تذكّر ذلك الاتصال : ” سأنتظرك أيّها السّائق في المنطقة الحرّة عند السّراب في الأحلام ، و الأجر مغري جداً ، لا تتأخر ” ، دخل في حالة بين الحلم و الواقع ، عيون ذلك المخلوق المرعبة لم تتركه بل بقيت في مخيّلته ، حاول تمالك نفسه ، نهض من فراشه مسرعاً ، غسل وجهه ، صنع فنجان قهوة ، استمر شارد الذهن لمدّة ساعتين ، بعدها حاول الرّبط بين كل من : تلك المكالمة و بين السّراب الموجود في تلك الصّحراء و البقالة و المخلوق الغريب ، فجميعهم يتحدّثون عن الفرصة و الأحلام ، تذكّر كلام المخلوق المخيف و اندهش من معرفته بحب غسّان لاقتناص الفرص ، فكّر بالعودة الى المنطقة الحرّة و مقابلة نفس الرّجل لسؤاله و الاستفسار منه ، حبّه و شغفه للمغامرة و الفرص دفعه إلى الانطلاق فوراً إلى نفس المنطقة ، ذهب إلى الجزء الصحراوي العجيب الّذي باغته مسبقاً بعد أن حفظ مكانه من قبل ، و شاهد الواحة الجميلة ، بعدها اختفت و ظهرت بوابة المنطقة الحرّة ، تجاوز بوابة المنطقة ، كانت المنطقة فارغة ، استغرب مجدّداً ، فالوقت تعدّى الثالثة عصراً ، و لا يوجد أي شخص ولا أي شاحنة ، وصل إلى مكان البقالة في نهاية المنطقة ، فلم يجد شيئاً ، فمكانها هناك وجد جداراً قديماً و أمامه صندوق خشبيّ بحجم متوسط ، اندهش غسّان ، و ظنّ أنّه يتخّيّل ، فلا وجود للبقالة ، ولا لذلك المخلوق ، دفعه الفضول و الرغبة في الحصول على فرصة إلى محاولة فتح الصّندوق ، حاول مرّة تلو الأخرى ، فلم ينجح ، بعدها من شدّة عصبيّته رمى ذلك الصّندوق رمية قويّة ، و ركب شاحنته ، و ما ان شغّل المحرّك ، حتى التفت بجانبه فوجد نفس الصّندوق معه في الشّاحنة ! ، استغرب كثيراً و شعر بالخوف ، و ظنّ أنّ هذا الصّندوق فيه سحر معيّن ، تناول الصّندوق مجدّداً و نزل من الشّاحنة و وضع الصّندوق بجانب الجدار القديم عند مكان البقالة المختفية ، و ما أن غادر حتى سقط في حفرة كبيرة متّصلة بطريق مليء بالصابون و الرّغوة جعله ينزلق بسرعة و أوصله إلى خزانات كبيرة دخل فيها ، و كانت مضيئة بألوان بنفسجيّة مليئة بالأشكال الأسطوانية الملوّنة و ساحة واسعة على شكل حلزوني تحتوي على مقاعد ضخمة ، عندها ظهر مخلوق آخر بحجم أكبر و خمسة عيون و لون رمادي داكن ، و ثلاثة قرون سوداء ، و فم واسع جداً ، و جسد مليء بالحراشف ، وسمع صوته يقول : ” لقد دفعك فضولك لترقّب تلك المكالمة ، رغم أنك لم تكن الشّخص المقصود ، فقد كنت أخاطب أحد عمالي الّذين يعملون لديّ في نقل نبات مصاص الدّماء ، و هو نبات موجود بالفعل ، و هو طفيلي لا جذور له ، و لا ينتج طعاماً ، يعيش فوق نباتات أخرى ، و يمتلك بروزات صغيرة مثل الأسنان يخترق بها النّباتات ، و يمتص غذاءها حتى تختنق و تموت ، كي يبقى هو على قيد الحياة ، و هو قادر على اختيار النّباتات التي يمتص غذاءها ” ، عندها استهجن غسّان كل ما سمعه و رآه ، و تذكّر ذلك الصّوت المبحوح ، و وقف ساكناً دون حركة ، أخبره بعدها ذلك المخلوق الكبير أنّ المسؤول عن الاتصالات لديهم ربّما شبك الخطوط دون قصد ، و أنّه سيعاقبه لاحقاً إذا أراد غسّان ذلك ، قال غسّان : ” لا أريد معاقبة أحد ، فقد أتركني أذهب بسلام ” ، عندها غضب المخلوق الكبير بشكل مخيف و أصبحت عيونه الخمسة براكين نار و حمم ساخنة ، و قال : ” لستَ أنت من تقرّر ، لستَ أنت من يسيطر ، لستَ أنت من يسامح ” ، ازداد غسّان رعباً و خوفاً ، قال المخلوق الكبير : ” نعلم أنّك تحب اقتناص الفرص ، و قد أخبَرَنا صديقاك بذلك مسبقاً و أرسلنا حالاً في طلبهما ” ، ردّ غسّان : ” مَن ؟ مَن تقصد ؟! ” ، ظهر المخلوق الآخر و قال : ” لقد جاء من أمرتني بإحضارهما يا سيّدي ، و قد كانا سعيدين جداً بإخباري كل شيء عن غسّان ” ، عندها ازداد غسّان غرابة ، كان غانم و جواد يقفان أمامه و الإبتسامة على محيّاهما ، سألهما غسّان : ” ماذا تفعلان هنا ؟ ” ، أجاب غانم : ” أتظن أنّك الوحيد الّذي يحب اقتناص الفرص ؟! ” ، و قال جواد بازدراء شديد : ” منذ أن عرفتك يا سيّد غسّان ، و أنت تشغل عقولنا بطموحاتك الأنانية الفارغة ، و لم تعطينا أيّ مجال لاستغلال الفرص ” ، تلعثم غسّان و لم يستطع الكلام ، قال المخلوق الكبير : ” أهلاً بكما يا صديقاي ، يبدو أن بينكم ضغائن ، يا لجمال ذلك ! ” و كان يبتسم بشدّة ، تناول قطعة لحم نيئة و أكلها بِنَهم كبير ثم تابع الحديث و قال : ” لن أطيل عليكم أيّها الأصدقاء ، لديّ صفقة لكم ، و هي يسيرة بالنسبة لأشخاص قضوا معظم حياتهم في النّقليات ، أريد منكم أن يقوم كلّ منكم بنقل طلبية وحيدة ، و ستكون الأولى و الأخيرة ، و ستكون مجزية جداً ” ، تجرّأ غسّان بعدها و قال : ” و ما هي الطّلبية ؟ ” ، قال المخلوق الغريب الذي قابله في البداية بعدما تحوّل إلى رجل كبير السّن : ” تريّث قليلاً يا غسّان ولا توافق فوراً ” مع ضحكة تظهر سخريته ، عندها نظر إليه المخلوق الكبير بغضب و قال : ” لا تتكّلم بدون إذني ، أيّها المخلوق الصّغير ، و إلاّ حوّلتك إلى أرنب ضعيف لا قيمة له ” ، عندها سكت الجميع ، أخذهم المخلوق الكبير إلى قاعة النّقاش ، و أخبرهما بعدها بأنّ اسمه دائب و معناه الرّجل الجاد ، و قال لهم : ” ستكون الطّلبيّة عبارة عن توصيل نبات مصاص الدّماء من ساحتنا الرئيسيّة إلى مجمع وحوش الأحلام الذي يبعد أربعة كيلو مترات عنا ، و المقابل سيكون تسع قطع ذهبيّة لكل منهم ، وافقوا على الفور ، و كانت البهجة و السّعادة تغمرهم .

استعدوا و تجهّزوا للرحلة الموعودة ، اتفقوا على الحصول على القطع النّقدية بعد إنجاز المهمّة ، كان غسّان يتخيّل القطع النقدية ، و يفكّر بم سيفعل بها ، تَمّ نقل النّبات الغريب في صناديق زجاجية مفتوحة قليلاً حتى لا تذبل ، و وضعوها في صندوق كلّ شّاحنة ، و بينما غسّان و رفيقيه في الطريق ، كلّ في شاحنته ، فكّر في التوقّف قليلاً لرؤية شكل النّبات الغريب ، و قال في عقله : ” ربما أستطيع أن أتعرف على هذا النّبات ، و من ثم التجارة فيه ، و أصبح من أغنى التجار في العالم ” ، حِسّ الرّغبة في اقتناص الفرص هو الّذي كان يوجّهه ، لدرجة أنه ابتعد كثيراً عن رفيقيه ، حتى يتسنّى له فحص الصّناديق و التعرّف عليه ، و الاستفادة من تجارته ، و بينما غسّان شارد الذّهن في طموحاته الكبيرة التي لا حدود لها ، سمع فجأة صوت يقول له : ” سيقتلك صديقاك و لن يتركا لك أي قطعة ذهبية ! ” ، عندها انتفض و زاد سرعة الشّاحنة حتى يصل بشكل أسرع من صديقيه ، كي يحصل على مكافأته ، بعدها وجد نفسه وحيداً في الطريق الواسع ، و ظنّ نفسه قد تجاوز صديقيه ، ليرى بعدها غانم و جواد أمامه في وسط الطّريق يتشاجران ، استغرب ، فهما يحبّان بعضهما كأخوين حقيقيّين ، نزل من الشّاحنة ، حاول فض الشّجار ، لكن شيئاً داخله أخبره أن يتركهما منشغلين حتى يتسنّى له أن يسبقهما و يحصل على المكافأة ، و ربما يستطيع أن يحصل على جميع القطع الذّهبيّة إذا قتل كلٌّ منهما الآخر ، عاد إلى شاحنته فوراً ، انطلق مسرعاً ، اقترب من مجمع وحوش الأحلام ، دخل إلى البوابة ، قابله أحد الأشخاص ، و استلم منه البضاعة ، بعدها حاول غسّان أن يخرج من المجمع لكنّه قبل أن يصل إلى الشاحنة تفاجأ بوجود العديد من الوحوش الغريبة قد اقتربت منها و أصبحت تحيطها من جميع الجهات ، فترك الشّاحنة ، وَ فرَّ هارباً بهدوء شديد دون أن ينتبه له أحد ، و بينما غسّان يركض بسرعة كبيرة ، وجد شاحنتي غانم و جواد ، و لوّح لهما بيديه ، بعدها توقفا ، أخبرهما غسّان بما شاهده ، و استغرب من تكاتفهما سويّاً رغم الشّجار ، لم يصدقاه ، و ظنّا أنّه يريد أن يحصل على الذهب وحده ، و يريد منعهما من اقتناص الفرصة ، مراراً و تكراراً مع العديد من سبل الإقناع حاول غسّان تحذيرهما ، لكن محاولاته باءت بالفشل ، تركا غسّان و انطلقا إلى مجمع وحوش الأحلام ، احتار غسّان ماذا يفعل ، و بينما هو شارد الذّهن تفاجأ بقدوم المخلوق الكبير دائب الذي طمأنه و دعاه إلى ساحته كي يعطيه مكافأته ، و أخبره بأنّه سيرسل في إنقاذ صديقيه ، و ما أن وصلا إلى السّاحة حتى طلب منه دائب أن ينتظر داخل هذا الغرفة ريثما يحضر له الذّهب ، بينما غسّان ينتظر ، سمع صوت استغاثة ، و كانت أمامه ستارة كبيرة سوداء ، وقف أمام السّتارة ، وحاول أن يسمع جيّداً ، و تأكدَ من وجود أشخاص يستغيثون خلفها ، بعدها فتح السّتارة فوجد صديقيه موجودين في حفرة عميقة يصرخان و يطلبان النّجدة ، فقد كانت هناك كميّات كبيرة جداً من نبات مصاص الدّماء حولهما ، و ما أن أخبرهما بمحاولة مساعدتهما حتى شعر بضربة قويّة على ظهره دفعته و جعلته يسقط في تلك الحفرة ، بعدها ظهر دائب و المخلوق الصّغير يبتسمان ، قال المخلوق الكبير دائب بعدها محاولاً أن يبرهن و مسقطاً أي لوم قد يقع عليه من غسّان : ” نسيت أن أخبرك أنّنا لا نحب أن يكتشف أحد أسرارنا ، نحن نحب اقتناص الفرص مثلك يا غسّان ، فلا تغضب منّا يا صديقي ، و قد جرّبنا أن نجعل نبات مصّاص الدّماء يتوق لمذاق البشر ، و بعد ترويض شديد نجحنا في ذلك و كنتم أنتم حقول التجارب ، و هذه أقل مكافأة يمكن أن نقدّمها لكم بعد مساعدتنا و تعاونكم معنا ، لن أقول إلى اللّقاء ، لأنني لا أظنّ أنّه سيكون هناك لقاء آخر بيننا ، حسناً ليلة سعيدة أتمناها لكم في معدة نبات مصاص الدّماء !!

صحيفة نحو الشروق

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى