ملامح الهايكو في شعر الشاعرة حسناء بن نويوة بقلم: بولمدايس عبد المالك
ملامح الهايكو في شعر الشاعرة حسناء بن نويوة
بولمدايس عبد المالك
الشّاعرة حسناء بن نويوة من القلائل الذين خاضوا تجربة كتابة الهايكو الياباني .. و”الهايكو” فن من فنون الشعر الياباني يحاول فيه الشاعر التعبير عن أشياء عميقة ومشاعر أعمق من خلال بيت شعري واحد مكون من 17 مقطعا صوتيا، (بحسب الألسنية اليابانية) تكتب في ثلاثة أسطر عادة..و هذا التعريف شائع و متاح…و قد بدأ هذا النوع من الشعر في الانتشار و إيجاد موطأ قدم له ‘ن على مستوى العالم العربي أو على مستوى بلدنا الحبيب..و لعلّ الشاعرة “سعدية حلوة “من اللواتي اعتمدن في ديوانها الأخير هذا النوع من الشعر غير أنّها أخضعته من حيث الوزن إلى بحور الخليل الفراهيدي و بهذا تكون خطت خطوة متقدمة إيجابية محاولة منها احتوائه و إخضاعه لقواتي الشعر الخليلي عكس شاعرتنا حسناء التي حافظت على وحداته و مقاطعه مع قليل من التحوير والتغيير..
و لعلّ أقرب تسمية عربية للهايكو هو ” شعر الومضة و التّأمل” ..فهو يأخذ من الومضة الشعرية بحظ و من التأمل بحظ أي يجمع بين الاختصار و الاقتصاد سمتا هذا العصر و التأمل الفلسفي الذي هو سمة الفلاسفة و المفكرين ..و حسب تتبعي لشعر الهايكو عند حسناء بن نويوة فإنّني وقفت على عدة ملاحظات مفصلية جمعت بين روعة الاختصار غير المخل و عمق التأمل الفلسفي و هذا ما يهدف إليه شعر الهايكو الياباني…
هناك عدّو تعريفات للهايكو لأكاديميين و باحثين عرب و أكتفي بتعريف واحد مفاده بأنه: “مشهد عادي تصفه بطريقة غير عادية” للكاتب الأردنّي محمود عبد الرحيم الرجبي…
و حتّى تكتمل صورة الهايكو كان علينا لزاما من إدخال عنصر التّأمل الذي بعطيه بعدا آخرا جاعلا من العاطفة الجياشة ملمحا عقليا تدركه الأوهام و تتلمسه الأفهام…و التأمل بصفة عامة هو تدقيق النّظر في الكائنات و حقائق الأشياء بغرض التفكر و الاتعاظ…و فيه معنى الثبات و الاستقرار و طول الانتظار أملا في الوصول إلى أبعد نقطة ممكنة من دالة التفكر و قمة بيان الاتعاظ و التّأثر … و لا يختلف المعنى اللغوي عن هذه الدلالات الاصطلاحية لمفهوم التأمل…
و بعد فقد اخترت بغير قصد و لا ترتيب مجموعة من الهايكوات للشاعرة بغرض الوقوف على ملامح الحقيقة النفسية و العقلية أو الفلسفية التأملية في شعرها و كذا الاستمتاع بالجانب الجمالي الفتّي في حروف شعرها الأنيقة الساحرة و استنطاق مكامن الجمال و الفلسفة و البيان المتوشّح بها شعرها الجميل…
و مع أول هايكو لها….
· الطِّين
يكتب القرويّ
مُستقبله!
الطين يرمز إلى أصل الإنسان و لكنه حالة متولدة عن مزيج بين التراب و الماء بحيث يصير قابلا للتطويع و التشكيل و حتى النّحت نقسه ..و الطين عموما يرمز للبساطة و للتعب و بذل الجهد …و يشير أيضا إلى الفطرة البشرية قبل أن تغزوها هذه الحضارات المتوحشة و المدنيات المتعطشة للسيطرة و البطش و تعبيد الانسان و سلب حريته و حقوقه… لذلك فالمستقبل سيؤول في النهاية إلى ذلك القروي البسيط القانع السعيد و ستأكل تلك الحضارات المتصارعة نفسها بتفسها..تماما كالنار هيث لا يبقى إلاّ الرماد تذروه الرياح …
أربعة ألفاظ مفصلية يدور عليها هذا الهايكو : الطين..الكتابة..القرية..المستقبل و عندما تتناعم هذه الأربعة يتولّد منها الحضارة الإنسانية الكامنة في نفسية الشاعرة…
· حروفٌ متلاطمة
يشتهي البياض
قصيدة
في هذا الهايكو صورة جمالية للحظات الأولى التي تسبق ولادة القصيدة و تشكّلها..نفسية الشاعرة قبل ولادة القصيدة تشيه إلى جدّ كبير تلاطم أمواج البحار غير أن أمواج النفس هنا هي حروف الشعر المتلاطمة و المتزاحمة و التي تسعة لتنال شرف اختيارها و اعتمادها في بنية القصيدة و بذلك تتحرّر من سراديب الوجدان و سجون الذاكرة و دهاليز الذات …. و البياض معروف و رمزيته أشهر من نار على علم..النور ..الفطرة..الأمل..التوفيق..النجاح..الشروق ..البدر..الشمس..كمّ هائل لا حصر له و لا عدد…غير أنّه قد سجن داخل الذات البشرية و لن يتمكن من تحريره إلاّ شاعرا فنانا مدركا لمعاناته و مأساته… و بذلك فكل قصيدة تحررت تكون قد خضعت لمخاض عسير كابده شاعر منقذ في صورة بطل… الحروف..البياض.. إرادة التحرر..القصيدة مفاتح مهمّة في ولادة القصيدة و صناعة الشعر …
· آناء اللّيل
تبزغُ القصيدة
ترياق!
هذا الهايكو صورة أخرى لما يعانيه الشاعر من غربة و وحشة فيلجأ في النهاية إبى أحضان القصيدة التي هي بمثابة الوطن لكم لا وطن له و الأم للذي لا خضن له و للخب لمن لا حبيب له ..هي الدواء و الترياق و البلسم … و هذا الهايكو لا يعتلف عن سابقه فهما يصيان في مصب واحد فقط الصورة أُخذت من زاوية نفسية أخرى …الليل..البزوع..القصيدة..الترياق محدّدات نفسية لوطن الشاعر الحقيقي يل هي البلسم الشافي لجراحات غريته و وحشته و وحدته….
· أتهجَّى الغياب
تتنهّدُ الزّفرات:
أيْنُكَ؟
في هذا الهايكو تصوير بديه للحظة التي تسبق ولادة القصيدة و ما أشدها من لحظات مؤلمة و قاسية ..و كأنّ للغياب أبحديته الخاصة التي تستوجب من الشاعرة محاولة تهجيها و قراءة حروفها و الاهتداء إلى مبررات تخفّف من شدّة الزفرات المزمّلة بتنهيدات عميقة مجّها الفؤاد …ليبقى سؤالا واحدا يؤرقها .. أيْنُكَ؟ ..ترى من يكون هذا البطل المنتظر..هذا المنقذ الرمز..ليسدل الستار و لا يزال البحث جار هن هدا المنقذ الأسطوري…ربما حبيب..صديق ..أخ..منصب..أمل..رجاء و القائمة مفتوحة…و الإجابة إذن مؤجلة لحين تفصح عنها الشاعرة نفسها..
التهجّي..الغياب..الزفرات/التنهيدات..التساؤل …هي مفردات هذا الهايكو الذي يصوّر مشهدا مهرّبا لمعاناه و مأساة يعيشها قلب الشاعرة عندما تخلو مع نفسها…
· أزرق.. أزرق
هذا المدى
صاخب صوت الرّيح.
اللون الأزرق رمز للفضاء الرحب الذي لا يحدّه حدّ و ما التكرار( أزرق ..أزرق) إلا توكيدا لفظيا لسعة هذا المدى الذي لا أول له و لا آخ و الذي عبثا تحاول الشاعرة استكشافه و الوقوف عند أسراره…لكن هيهات هيهات فها هي تقف عاجزة مستسلمة بل و تصرّح عن خيبة أملها في فكّ شفراته العجيبة…فالمسكينة لم تجني من محاولتها إلا صعب صوت الريح و جلبتها…و الريح إذا أفردت و لم تجمع فعي ترمز إلى العذاب و الحيرة و الشر أما إذا جمعت فتعني الخير و البشائر…و هذه حقيقة قرآنية بامتياز..ريح صرصر عاتية…ريح لا تبقي و لا تذر…
الزرقة..المدى..الصخب..الريح..أدوات هذا الهايكو الذي يصور تشتت فكر الشاعرة و شدّة حيرتها و كثرة تردداتها و بأنها لا تزال في رحلة بحث مضنية لا طائل يرجو منها…و ما حصادها إلا صخب الريح الذي لا يغني عم الحقيقة المرة شيئا..
· أتعبني الإصغاء
كم بارع
نحّات الرّيح!
هذا الهايكو عو صورة للحيرة و التشتت اللذان يلازمان نفسية الشاعرة و هو يجري في نفس سياق الهايكو السابق بل هو تفسير له ..ففي الهايكو السابق صورة للانطلاق و البحث و في هذا الهايكو ثورة لانعكاسا ذاتها من الداخل لتعلن هزيمتها و تقر بانتصار نحّات الريح كناية على رجوعها من رحلتها بخفي حنين أي أنها لم تجن إلا ثمار الريح…
التعب..الإصغاء..براعة النحات..الريح… هذا الرباعي المتكاثف صنع الحدث باحترافية كبيرة و أدخل الشاعرة في دوّامة الفشل و خسارة المعركة…
· أوراق متساقطة
رائحة عابرة
خريف وحيد
هذا الهايكو صورة كالحة السّواد لنفسية مهزومة مهزوزة..حيث نرى الشاعرة تشبه رحلتها بأوراق الخريف الصفراء المتناثرة ذات الرائحة العابرة..و الرائحة كناية عن الأثر المورث و الباقي بعد مغادرة الروح لهذه الأرض العامرة…يل و نراها تصف لنا تفاصيل حياتها و بأنها لم تحض بتعاقب الفصول من شتاء و ربيع و صيف و أنّها لم تشهد إلاّ فضلا واحدا و وحيدا..فصل الخريف و كفي…
و يأتي هذا الهايكو ليبرز لنا قطعة أخري من أجزاء مساقطة لمشهد خريفي وحيد الفصول…
الأوراق..التساقط..الرائحة..الخريف ..أجزاء قطعة لصورة نفسية مهترئة مشتّتة و منهزمة منهارة….
و هذا السياق التراجيدي تتعاقب باقي الهايكوات و بالقياس على تفاصيل ما سيق تتضح مسارات الهايكوات الباقية …فالشاعرة حالة نفسية مستقرة و لا تخرج المعاني الموظّفة من طرفها من هذا السياق العام….
· فوق بلاط الذّكرى
اسمك
لحن غاف!
· في العتمة
عيناك
بقعة ضوء
· فصولٌ مُتعاقبة
حبٌّ يولد
آخر يموت!
· بدمعةٍ
يحترق الخدّ
وتشيب الملامح
· ليلة الميلاد
كلّ ما تبقّى
كمدٌ راقص
· شمعةٌ تنطفئ
يبكي العاشق
قطّاف التّمني.
· على صهوة اللّيل
امتطيت حلمًا ورديًّا
غصتُ في التأمّل
و أختم هذه الملامح بهذا الهايكو الأخير الذي تعمدت أن أجعله مسك الختام لما يتضمنه من خلاصة رائعة لفلسفة الشاعرة في الحياة و الجمال ..
· في قارورة
يعصر روح الوردة
عطّار.
في هذا الهايكو تصور الشاعرة مشهدا دراميّا لمصير المرأة في نهاية المطاف أو في ختام الرحلة و هي نهاية محزنة و مخزية في نفس الوقت… فنراها تشيه المرأة بالوردة و هذا تشبيه يليق بأنوثة المرأة و جمالها ..إن في منظرها أو تناسق أوراقها أو لطف ملمسها أو في عبير شذاها …لكن لا ينبغي أن نغتر بالمظاهر فالعبرة بالنهابات … و كيف يحال أجمل ما في الوردة و هو عطرها ليوضع في قارورة زجاجية يتلاهى بعطرها في الحفلات و المناسبات… إنها ترفص هذه النهاية و لا تريد لروحها الجميلة أن يكون مصيرها زجاجة عطرو كفى…إنها الوجه الثاني للبشرية و ليست متاها للزينة و الاستمتاع…
على الإنسانية أن تقدّر المرأة و تضعها في المكانة اللائقة بها كإنسان و أم و زوجة و أخت…هذه رسالتها الإنسانية الكبرى تعلنها صريحة مدوّية…
و يعد هذا التطواف الشيّق و الممتع تتبدّى الملامح الجمالية في شعر الهايكو عند الشاعرة حسناء بن نويوة و بأنها نجحت في خوض هذه التجربة و استطاعت أن تعبر عن فلسفتها الحياتية و الجمالية بحروف رقراقة و معاني أكر صدق و وضوح و موضوعية و واقعية …هذا و بالله التوفيق.
بولمدايس عبد المالك
الجزائر في 16.02.2021
تعليقات