المقال
نحن موتى حياة، وقتلى شهادة، وهلكى سيادة بقلم: “عبد المجيد محمد باعباد”
(الاغتراب في ديار الوطن)
نحن موتى حياة، وقتلى شهادة، وهلكى سيادة،
الدكتور/ عبد المجيد محمد باعباد.
في ظل الحروب السوائد، زمن هذهِ الشدائد، فاق الظلم الحصائد، وبلغ الحبر الجرائد، وزاد اليتم مراثي القصائد، فخرج الفتى باعباد، في ليلةٍ حالكة السواد، يشكو أوضاع البلاد، ويفصحُ عن أحوال العباد، فاعتلى ربوة المداد، وانتصب هضبة السرد، ووقف خائبًا يسجع خيبة المراد، وتأرجح برجله يذم معيشة البلاد، وتنحنح بقوله: يا إلهي كل شيءٍ في بلادي ضائعٌ!” لم يعد ذاك العيش في أرضي مراعٍ، قد ولى منا زمن الرخاء ضاع، ولم يعد في موطني ذلك البقاء المستطاع، لم يكف في شعبنا قتل المجاع، لم نكف من بعضنا صفع الذراع، لم نجل من جارنا مكر الخداع، لم ندع في حياتنا نعيشُ نزاع النزاع! فكم أموات بأرضنا تؤرمس البقاع، وكم أحياء بدارنا تئن جراح الأوجاع، يا إلهي ما عساي أطرق الأسماع؟ لا…وقد ضج بعيشنا صراخ الأشياع! وفسد في شرعنا حكم الدنباع، وعثا بأرضنا فساد من باع وباع، واعتلى قرار شعبنا من كان بالأمس في أسفل القاع، وتربع عرشنا حكام تفهاء وسادة جهلة وحمقى سوقة، فضاع الوطن وضاق بأهله معًا؛ وانقلبت الموازين على عقب، وبلغ الطيش العجب، وزاد الجهل علو الرتب، وبلوغ العجب أنَّ أصبح حالنا المشاع: القتل، والتنكيل، والظلم، والظلام والقهر، والتشريد، وعم البقاع هذا الواقع المرير!” يا إلهي قتلوا بداخلي الإبداع، مثلما قتلوا شعبي ضحايا صراعٍ، يا إلهي جف منا دمع اليراع، وزاد بنا وقع المدافع هنا ذرفت سيول المدامع، وسالت دماء المواقع، وفاقت مآتمٌ المرابع ،حتى بلغت القتلى عتو المصارع، وما زالت بدارنا تحل القوارع، ونحن موتى حياة، وقتلى شهادة، وهلكى سيادة دون سيادة، ومرافق الإدارة تحتاج إلى إدارة! يا صديقي، الرائع! من يكبت بداخلي الجرح الواسع؟ ومن يضمد في موطني هذا الجرح الشاسع؟ ومن يخمد نيران الوضع المتهشم والمضطرم بشعبنا في كل شارع؟ ألا تعلم يا صديقي أننا معًا نعيش هذهِ الفجائع؟ ولكن فاق في قلبي حجم المواجع! وزاد في عيشي كمد الجوازع، منها أني آثرتُ أخذ العلم؛ وفي نيله صرتُ قانعًا مقتنعًا وأخذت بصيصًا منه من كل مجال قرأتُ وطالعتُ وأبدعت، ولكن المدهش يا صديقي، درست في كلية الحقوق، ولم أنل أي حق في هذه البلاد ولم أجد لي في موطني موطئَّ قدمٍ غير صناعة القلم، وعنيتُ بالأدب في بلاد لا تحترم كُتَابَّ الأدب، مثلما تقدم كتائب الحرب، ويا للعجب أني عرفت من أهل الإبداع، في بلاد تدعم أهل الصراع، ولا تأخذ بيد المبدع، ولا تحترم المعلم، ولا توقر كفاءة المؤهل مثلما توقر سيادة الجهل، وفخامة الجهلة يا صديقي، لا أعلم شابًا بعمري نال منه الأدب نحسهُ؛ مثلما نال من أبي الطيب اسمهُ وجسمهُ؛ وحتمًا خاض دروب الحياة بعزيمة نفسهِ، وانصاع في تقلبات الزمان يومه وأمسه؛ وذاع في عروبة اللسان اسمهُ؛ بعد أن نقل لنا وقائع الحدثان صورًا شعريةً خالدةً، وأبدع جودة البيان رسمًا حسيًا باهرًا، ولم يحز كرسيًا كان لهُ شأن كسبه، فكان الحصاد من حظ الأدب، لا من نيل المكسب، فما بالك بشاب بلغ سرد الأدب؟ فصدُّه قومه شأن مكاسب الحرب، وما ذاك إلا لعظيم شأن حامل الأدب، وأن تحاملوا عليه بسوء الأدب، ففي بلادي طغت الحياة الاقتصادية على الحياة الاجتماعية حتى ضاعت منها القيم الأخلاقية، والثوابت الدينية تزعزعت تجاه الأهواء الدنيوية، وأصبحت الأموار العقائدية مجرد شعائر تؤدَّى كطقوس من غير تقوى القلوب، وأصبحت حياة الناس تطلب هداية المال لا هداية العمل، والعياذ بالله أن ترى نُسَّاك الدين وأهل الصلوات، يفضلون دونهم سوقة الناس وأرذلهم خلقًا ينالون قبلولهم بحجة أن لهم العملات، لا أرقى المعاملات بينهم، ويقيمون مال الصرفات! بغض النظر عن التصرفات والسلوكيات التي يصدرها الشخص نفسه بل حجم فلوسه هي من تحدد رفعة أخلاقه بين الناس؛ وهي من تضع وقار مكانته، وهي من تحدد صدقه وأمانته، بغض النظر عن انحرافه وطيشه، فهذا لا يهم في نظر المجتمع المتململ برأسه نحو رأس مال عصره الزائف بأمتعة المال، والكفاءة لم يعد لها أي وجود على مستوى الحياة الدينية والمدنية أيضًا بشكل عام على مستوى المجتمع الواحد وفي محيط الأسرة الواحدة، تجد أن المال قد طغى على كل شيء الأخلاق والقيم انحلت بينهم يقول: المصطفى صلوات ربي عليه: إنَّ لكلِّ أُمَّةٍ فتنةً وإنَّ فتنةَ أُمَّتي المالُ. المالُ فِتنةٌ؛ فمَن استخدمَه في طاعةِ اللهِ وسخَّره في مَرضاتِه كان المالُ نِعمةً ساعدَتْه في بلوغِ الجنَّةِ، ومَن استغلَّه في غير مرضاته كان سبب هلاكه. كنتُ صغيرًا أرى الحياة من حولي جميلة!” على حسب حلمي آنذاك كنت أرى التائق يرنو نحو مبتغاه، والصغير سيبلغ مناه يوما ما صارت الناس حيال فهمي، كنتُ طالبًا امتشق بنان قلمي حالمًا بما عندي من حظوظ العلم وسعة الأدب، وامتصُ في ليلي رحيق الكتب، وامتطيَّ صباحاتي نثري وشعري عن كثب، وأصوغ لجينات الذهب سبائكَ تذهب كل ذي لب، وأقلدها صفحات مواقعي؛ أمام شفاه كل من هب ودب أضعها عذوبة مناهلٍ رقراق، ولكن الناسُ في عصرنا بلا أذواق، وعندهم حياة الأسواق تزينت، وأضاعت منهم معانَّ الأدب والأخلاق، لهذا السبب وافقَّ شننٌ طبقه، وحالف الزمان ذوقه، وطالت عنان السماء بسوقه، فسرعان ما هوت به ظواهر الحياة الرأسمالية وهو ما يزال خافقًا يتفيأ هام النجوم بيانًا فالكواكب السيارة مهما قلبها الزمان؛ فلن تنحرف عن مسارها الكوني.بعد سرد الحال المسجع، ما لبث الفتى المجعجع! أن شدا عجلاً، وأردف مرتجلا، وانبرى يعرفنا وجلا :(أنا)
تائهٌ في لجة الدهر أشرعُ
وحيٌ في بلاد الموت أبدعُ
عطشانٌ كأس الحرمان أجرعُ
وحيدٌ في وصال الأهل أقطعُ
عاشقٌ صبابات الغرام وأصرعُ
في صولة الحرب بالحب أدرعُ
سليقٌ الفكرِ صاغ البيان الأروع
ولكن……………………………..؟
في أي ربعٍ أظفر البنانُ أصابعْ؟
في أي صبحٍ أفذ النهار نواصع؟
في أي وطنٍِ بلغ الزمان مواجع؟
في أي صقعٍ سال العين مدامع؟
في أي أهلٍ شن الحرب مدافع؟
في أيٍ عصرٍ هد الدين صوامع؟
سألتُ الجموع فلا ردها سامع؟
قل:…………………………….؟
هو في نشأة الحرف فتى ضالع…!