نقد لديوان الأخضر الذي ليس شجرة لصاحبة د. عماد أحمد نقد هذا الديوان من قبل الاستاذ يسار الحبيب
قراءة في ديوان الأخضر الذي ليس شجرة
للطبيب الشاعر عماد أحمد
حينما تقرأ عنوانًا لعمل أدبي فغالبًا ما يختصر لك المضمون، أو يَشي بكثير من الدلالات، التي لا شك تكون مجمِلة لما يلتمع في نفس الكاتب، ويكون بذلك هو العنوان المفضل الذي آثره على غيره من العناوين، فاعتلي قائمة ما بعده، وهنا سأتعرض لجوانب ثلاث: اللون، والصورة، واللغة، باختصار.
ففي ديوان كاتبنا يأخذ اللون مساحة جديرة بالاهتمام، بدءًا من عنوان الديوان نفسه (الأخضر الذي ليس شجرة)، إلى عنوان إحدى القصائد (قناعات صفراء)، مع أن مفردات الألوان كانت متناثرة في متن النصوص الأخرى، لكن المتتبع يمكن أن يستقيَ منها ما وراء اللون من إضاءات -وربما مفارقات- قادرة على أن توحي بشيء كَمُنَ في ما وراء وعي الكاتب.
لا شك أن الأخضر يعكس في النفس دلالات من الطمأنينة والراحة، ويتسع ليكون محط الأنظار، لكن هذا الأخضر -الذي استأثر باسم الديوان، مع مفارقة أن يكون لشيء آخر ليس شجرة- لم يطغَ على مفردات الديوان كله، بل نرى أن هناك ألوانًا أخرى زاحمته، بل كادت أن تجعلنا في موقف مربك من اختياره وتفضيله على غيره، مع أن الأخضر ليس هو اللون الذي تمنى الكاتب أن يكونه في تخيراته النصية، كما سيأتي.
يقول كاتبنا: (كيف تسقيكِ مزنة، وكل هذا اليباس، يتسكع في براري اخضرارك) ويقول: (لأنك… حصة الحديقة من العين من أقصى الأخضر إلى أقصاه)، ويقول: (إلى أزعر بعينين خضراوين وشعر مجعد)، هذه الأمثلة تجعلنا ندرك تصالح الشاعر مع الأخضر، لكن ثمة ألوان أخرى، فالأزرق، والأبيض، والأسود، والأحمر، والأسمر، كلها ألوان كان لها نصيب في مفردات هذا الديوان، ومن أمثلة ذلك قول كاتبنا: (أنا ابن ذلك الخطأ. على الأغلب لم يكن مقصودا. ولو كان كذلك لكنت أطول قليلا . وأكثر سمرة). ثم يقول: (أؤمن بالأزرق من قلبك). ويقول: (في سواد عينيك وبياضهما ثمة من يموت غرقًا)، ويقول: (بحمرة خديك يولد الزمان هذا العام).
ومع ذلك أبدى شاعرنا خوفه من اللون الأصفر فيصرح مخاطبًا محبوبته: (أشعر بالخوف من الأصفر الذي لا تحبينه)، وسبب خوفه واضح… لأن محبوبته لا تحب هذا اللون، وليس شعوره بالخوف نابع عن قناعة محضة، بل مجاراة لمن يحب.
وقد يكون له حق في استشعار ذلك الخوف، ولكن المفارقة الأخرى هي تمنيه أن يكون لوناً آخر يزاحم الأخضر الذي اتخذه عنونًا لديوانه، وذلك نزولًا عند تفضيل محبوبته أيضًا لا لاختياره الحر؛ إذ يقول: (لو أنني لون لكنت الأحمر الذي تفضلينه)، إن هذه الجزئية البسيطة تعكس المفارقة في أن تكون كما تختار أو أن تكون كما يريد الآخرون، أمر يجعلنا نعيد النظر في اختياراتنا النابعة عن رغبات الآخرين أو تفضيلاتهم، وقد يعتذر الواحد منا بأننا لا شك محاطون بغيرنا، ونظرتهم لنا تدعونا إلى تنازلات بعضها يحرفنا عما نظن أنه الصواب، وبعضها الآخر يدخل في باب المجاملات، ومنها ما فيه هلكة تودي بنا إلى الهاوية، لم تكن هذه الجزئية في معرض القضايا التي أرادها الكاتب، وإلا لأودعها في نص يعالج فيها أطراف هذه المعضلة السلوكية، التي تلزمنا أن نكون كما يريد الآخرون، لا كما نريد نحن.
وإنصافًا لشاعرنا، فرغم أنه كان بين الخوف من الأصفر والتمني أن يكون لونًا أحمر يتخير لديوانه اللون الأخضر عنواناً، وفي ذلك دلالة على أنه استطاع أنه يشق طريقًا ثالثة، يجعل للأخضر الصدارة بين تلك الألوان، على غير ما تفضله محبوبته.
وللصورة مكان فسيح من هذا الديوان وقد اتسمت بالأصالة والتفرد والإبداع، ويمكن أن تكون تلك التراكيب التي تبدو مفرداتها متباعدة ظاهرًا، لكن مزجها في الصورة الشعرية التي نسجها قلم كاتبنا متوائمة متقاربة، يجمع بينها حظ من الدهشة والجمال، ومن ذلك قوله: (أنمو تحت إبط الوقت)، (وما تزال أصابعي عشرة كاملة قادرة على التلويح ببسالة وما يزال الحائط يمشي مستورا إلى جانبي)، (بثلاثة مسامير أثبت حروف اسمي على نفسها. وربما أثبت الجدار القديم على صورتي قبل أن يتغير الوقت المحلي)، وغيرها من الصور الجميلة التي امتدت على كل صفحات الديوان.
وقد كان للغة المأنوسة النابضة بالحياة والشاعرية ولمفردات البيئة نصيب من هذا الديوان، عكست الجانب الخاص للغة المعاشة التي أنبأت عن حرص بعض الأدباء على توثيقها في أعمالهم، وقلما ظهر ذلك في كثير من التجارب الإبداعية ذات الطابع الفصيح، ويمكن أن نعرض بعضها في قول كاتبنا: (يمكن أن يرن مثل خشخيشة في يد طفل مدلل أو مثل جرس في عنق مرياع) (أنا ابن ذلك الأيلول ولدت قبل حواش القطن) (أؤمن بالحياة أيضا…. وكأنها موال عابر أو كأس شنينة في صباحات تموز) (أشعر بالإحباط ولكنني أغشم نفسي)، (تمرن جيدا أيها القلب كن نشميا وابتعد)، ثم يخاطب الموت فيقول: (ولكن طاريك يدغدغ مثل طعنة من الخلف) (وصار حديثي عن الحب يشبه حديثك عن أنواع القماش وتنانير الكودلي ).
ولا بد لكل كاتب أن ينعكس في نتاجه ما يمارسه في حياته من خبراته اللصيقة بيومياته، وهذا ما بدا في هذا الديوان ووظفها الشاعر بطريقة ذكية؛ فهو كطبيب أدخل مفردات من حياته المهنية ومازج بين رؤية الطبيب وروحانية الشعر؛ فيقول: (كم دقيقة حياة قد تمنحك حفنة أكسجين)، ويقول في قصيدته: (حبة مسكن) … (ما الذي يمكن أن تفعله حبة مسكن)، ويقول: (بثلاث حبات بندول أتكيف مع الصداع الذي يذكرني برأسي).
هذا. مع تمنياتي بالتوفيق للطبيب الشاعر بانتظار أعمال جديدة أخرى، مع الشعر والجمال والإبداع.