وصل القطار بقلم :د.محمود الزكي
آخر أعمالي الأدبية
قصتي القصيرة
وصل القطار
تتجاوز الأن الساعة الثالثة ظهراً بمدينة القاهرة
الجو شديد الحرارة الإزعاج يعم المكان أبواق السيارات أصوات البشر القلقة التي تعكس هذا الشحوب الذي يتبدى في وجوههم
ليس الأمر مستغرباً فنحن في محطة القطار برمسيس
حركة من الهرولة يريد كل شخص في خطوات متسارعة ان يحجز تذكرته
لكن نجد هنا هذا القطار يتحرك ببطء شديد انه القطار المتوجه لمدينة المنصورة
ما ان يستقر القطار ويتوقف إلا ويندفع الناس بداخله من أجل حجز مقعد شاغر
بضع دقائق وحالة من الإستقرار والهدوء بداخل القطار اللهم إلا بعض الأصوات من الباعة أو بكاء بعض الأطفال هنا وهناك
أخذ كل راكب من الركاب في الإنشغال بما يهون عليه ساعات السفر
فهذا قد أخرج جرنال يقرأ فيه وتلك قد أخرجت الجوال وأخر قد مال برأسه نحو الشباك لعل وعسى ان يأتيه النوم
فجأة تدخل من باب القطار سيدة
طويلة القامة يبدو اننا لن نستطيع ان نحدد ملامح وجهها النظارة السوداء والخمار وكأنها تتعمد ان تُخفي أشياء عن الناظرين
كانت السيدة في منتصف الأربعينات من عمرها متجهمة الوجه تحمل بيديها اليسرى حقيبة صغيرة
أخذت تتفحص المكان بحثاً عن مقعد شاغر
ظلت تمشي بضع خطوات حتى وقعت عينيها في نهاية القطار على مكان شاغر كان من المفترض ان يجلس فيه أربعة أشخاص لكن لا نجد هنا إلا رجل يمسك جريدة في يده مستغرق في القراءة ملاصق للشباك اللون الأبيض يكسو معظم شعره يبدو انه في الخمسين من عمره أو يتجاوزها بقليل ألقت السيدة السلام فرد عليها الرجل دون ان يبال بالنظر إليها ثم جلست السيدة على المقعد المقابل لكن البعيد عن الشباك حتى لا تقع أعينها في أعين الرجل
وضعت السيدة الحقيبة بجانبها بعد ان أخرجت منها كتاب يحمل عنوان لا تحزن
فتحت الكتاب وأخذت تستغرق في القراءة وأخذ القطار في السير
الرجل ينتهي من صفحة وينتقل إلى أخرى في جرناله والسيدة منهمكة في القراءة حتى سمعت صوت الجوال فأخرجته من حقيبتها وقالت بصوتٍ خافت:نعم أنا ركبت القطار أمامي ساعتين ونصف حتى أصل
تغلق السيدة الهاتف ثم تعيده إلى حقيبتها وفي أثناء عودتها للكتاب مرة أخرى تقع عيناها على هذا العنوان في مقدمة أحد صفحات الجريدة
القضاء يوصي بتعجيل الأحكام في قضايا الأسرة
السيدة بصوتٍ متردد تنظر للرجل قائلة:لو سمحت هل من الممكن أن تعطيني تلك الصفحة من الجريدة
الرجل بصوتٍ هادئ:تفضلِى
أخذت السيدة تقرأ باهتمام شديد ثم قالت بصوتٍ هامس بعد ان تنهدت تنهيدة كبيرة:لا شيء من هذا سوف يحدث لنا الله
تعيد السيدة الورقة للرجل الذي أخذه الفضول لقراءة ما كانت تقرأه السيدة وبعد ان انتهى نظر إليها مبتسماً:أظنهم صادقين في هذا الخبر تلك المرة فقضايا الأسرة قد أصبحت كثيرة ومشكلاتها أكثر
السيدة وقد بدت علامات الحزن على وجهها:أتمنى هذا لأنني أعاني منذ أعوام
يطوي الرجل جريدته وبنظراتٍ حائرة ينظر إليها مستفهماً:هل من الممكن ان أعرف طبيعة مشكلتك؟
السيدة تغمض عينيها وبصوتٍ بائس تقول:مشكلتي كبيرة ولا أحد يريد ان ينصفني من أنصاف الرجال
ابتسامة غامضة تكسو شفاه الرجل الذي قال لها متعجباً:إذا لم يكن هناك فضول مني هل من الممكن ان اسمع تفاصيل المشكلة؟
تغلق السيدة الكتاب وبشكل مباشر قالت وهي تحاول ان تتحاشى نظراته::كنت فتاة متفوقه بفضل الله أحسن أبي وأمي تربيتي تخرجت من كلية العلوم بتقدير كبير ودخلت مجال التدريس في إحدى الليالي دخلت علينا جارتنا وبصحبتها ابنها القادم من السفر وكان شاباً وسيماً طلبت جارتنا يدي من أبي الذي طلب مهلة من أجل أخذ رأيي ومشاورتي
رغم عدم التكافؤ العلمي بيننا فهو حاصل على دبلوم صنايع لكن كنت أشعر بميل نحوه فوافقت على الفور رغم ميل أبي لرفضه
تزوجنا بعد حفل كبير وشهر عسل لم أكن أحلم به لكن مع مرور الوقت أخذت أمواله التي جمعها من سفره تنفد حتى اكتشفت انه عاطل عن العمل
الحمد لله تحصلت على عقد عمل في الخليج فرافقني في رحلة سفري ولم يكن له من عمل سوى جمع راتبي آخر كل شهر
ومع كل أجازة صيفية نشتري عقار ويكتبه باسمه لأن لا يصح من الرجولة من وجهة نظره ان يصبح كل شيء ملك الزوجة
توالت السنون واكتشفت اني عقيم وتزايدت رغبة الإنجاب عنده وتوفي أبي ثم أمي وقررت العودة إلى مصر لكن زوجي قد حسم قراره بالزواج
اشتعلت في قلبي الغيرة والحصرة خاصة انه سيتزوج بمالي أنا ويعيش في بيتي أنا
قررت الإنفصال والمطالبة بحقوقي لكن مع الأسف إلى الأن قضيتي لم تزل تُنظر في المحكمة
لجأت إلى إخوتي بعد هذا وعندما صعبت عليا الحياة بمشكلاتها طالبت إخوتي الرجال بميراثي في أبي فسخروا مني وقالوا ابحثي عن مالك الذي عند زوجك
تخيل أنا الأن أستأجر شقة صغيرة في بيت صديقتي بالرغم ان أموالي التي جمعتها في سفري كفلت لي ثلاث شقق في أماكن مختلفة لكن بفعل الطمع والجشع والخيانة من أنصاف الرجال لم أتحصل منهم على شقة واحدة
تتغير المعالم على وجه الرجل حيث الضيق والتأثر من حديث المرأه فقال بعد ان شهق شهقة كبيرة:لا حول ولا قوة إلا بالله
ردت عليه السيدة بوجه أقرب للبكاء :أنا على يقين ان الله سينتقم من كل رجل ظالم
الرجل بنظرة عميقة للسيدة يستفهم قائلاً:لماذا تجمعين كل الرجال في حديثك بالرغم من ان زوجك مجرد حالة
السيدة وقد بدى الغيظ على وجهها:مع الأسف زوجي ليس حالة بل هو حالة من حلات كثيرة تعكس قلوب الرجال المتحجرة
الرجل في هدوء شديد:يا سيدتي ردا على كلامك لقد بلغت مرحلة متقدمة في العلم والتفكير والممارسة والمؤكد تعرفي قول الله تعالى :ولا تزروا وازرة وزر أخرى
السيدة بتنهيدة كبيرة:أعلم ذلك أتفهمه لكن أتحدث عن واقع حاصل وملموس والدليل كل تلك القضايا في محكمة الأسرة والمعاناة التي نراها كل يوم دون رحمة من الرجال
الرجل: بعد ان أخذ نفساً عميقاً مال بجسمة في قعدته وأصبحت أعينه في أعين السيدة وقال لها:لكن هناك قضايا ربما لم تدخل محكمة الأسرة لأن القاضي فيها هو المولى سبحانه وتعالى ولكي تعرفي ذلك استمعي إلى قصتي
لاحظت السيدة كم الحزن الذي بدى على وجه الرجل فنظرت له باهتمام وقالت بصوتٍ خافت تفضل مصغية إليك
الرجل وقد خفت صوته وانكمش وجهه:كنت وحيد أمي لن أقل لك اني كنت متفوق مثلك في التعليم لكن كنت أعشق الكتابة والشعر وكان حلمي في الحياة ان اتزوج من إنسانه أحبها
تخرجت من كلية التجارة وعقب تخرجي ظلت أمي تلح عليا في الزواج من ابنة خالتي التي لم أكن أشعر نحوها بشيء
لكن تحت الإلحاح والرغبة تزوجتها بفضل أموال أمي وعشت معها حياة متبلدة حتى أنجبنا ولد وبنت وتم تعيين زوجتي في هيئة البريد
كانت الحياة تسير بشكل طبيعي حتى تفاجئت بزوجتي تقول لي: والتردد على وجهها أريدك في أمر هام
انفردت بها في غرفتنا فقالت:صحيح انت ابو أولادي وأعترف باحترامك لي ولنفسك وزوج مثالي لكن أرجوك لا تجبرني ان أغضب الله
فقلت لها مستغرباً:ماذا تريدين؟
فقالت وقد انهمرت عينيها بالبكاء:انا امرأه ذات مشاعر وأحاسيس وأرجوك لا تنعتني بالخيانة أو فقدان معنى الأمومة احب زميلي في العمل وقد اتفقنا على الزواج بعد ان تتركني بالمعروف ودون شيء مفزع يحدث بيننا
بالطبع كان كلامها كالصاعقة التي نزلت على رأسي لكن حاولت ان أتمالك نفسي ولم يكن أمامي في النهاية وحتى احترم رجولتي وانسانيتي إلا ان ألبي رغبتها بالطلاق
السيدة بوجه منفعل:هذه ليست أُم ولا تملك أدنى المشاعر
الرجل بضحكة ساخرة:للحكاية بقية دعيني أكملها لك
تزوجت طليقتي بزميلها واستمر الزواج لمدة عامين ثم طلقت بعد خلاف بينهما وبالطبع ظلت تلح حتى تعود إلى ذمتي
السيدة تستدرك قائلة:بالطبع انت رفضت
الرجل بضحكة مستغربة:لماذا بالطبع تحت ضغوط عائلتي قمت باسترجاعها
هي الأن تعيش معي لكن دون وصال بيننا وكأنها مقعد أو أثاث من أثاثات البيت شيء متجمد يفتقد للروح
أما أنا فأشعر بعذاب يومي كلما نظرت في وجهها أو تحدثت معي في أي أمر من أمور البيت
فما رأيك الأن هل لابد ان تكون القضايا داخل محاكم الأسرة
وضعت السيدة رأسها في الأرض وقالت:لا أدري ماذا أقول لك يبدو ان قسوة الحياة لا ترحم أحد
الرجل بصوتٍ حاني:هذا ما أريده ان أقوله لك ليس الأمر متعلق بالرجال أو النساء لكنها مشاعر وإنسانيات تحركنا جميعا وكان الله بعون من حُرم منها
السيدة بصوتٍ حزين:لكن ما ذنبي أنا وانت حتى نعيش دون ان نشعر بلذة الحياة!
الرجل وقد ارتعش وجهه:لابد ان نجد اللذة بأنفسنا ولا نستسلم لِما حدث المؤكد ان هناك أشياء جميلة قد نقابلها ولو صدفة
السيدة وقد هدأ وجهها:نقابلها متى؟بعد ان أوشك العُمر على نهايته
الرجل:الأعمار بيد الله وربما تقابلين شخصاً يغير عندك تلك المفاهيم التي أخذتها عن الرجل
السيدة بضحكة ساخرة:هل ستظنني لو تمكنت من الإنفصال من هذا الملعون ان أكرر تلك التجربة لا يا سيدي سأتفرغ لنفسي بعد ربي
الرجل:جميعنا يقول هذا لكن فجأة نجد أنفسنا نصنع حياة جديدة تمحو ما كان قبلها
يبدو ان القطار قد أوشك على الوصول أخذ بعض الركاب يتوجهون نحو الأبواب بينما أخذت السيدة حقيبتها وقامت من على مقعدها وهي تنظر للرجل قائلة:أتمنى الا أكون قد سبب لك نوع من الإزعاج
الرجل بنظرات متأملة:أبدا بالعكس فقد هونتِ على نفسي ساعات السفر
تدير السيدة رأسها نحو الباب وبعد ان وقف القطار وأخذ الجميع يخرجون منه الواحد تلو الأخر خرجت السيدة بخطوات مُسرعة والرجل من خلفها وبينما هي على سلم المحطة وجدت من يناديها من خلفها قائلاً::سيدتي هل يمكنني الحصول على رقم جوالك حتى اطمئن عليك أو ربما كان هناك لقاء آخر بيننا
السيدة بنظراتٍ غير مباليه : لا أظن ان الرقم سيفيد بشيء ولم يعد هناك ما يجمع بيننا فالقطار قد وصل إلى محطته الأخيرة
سلام الله عليك
د.محمود الذكي