إشراقات أدبيةالقصة

اقتناع بقلم الأديبة خولة البصري

اقتناع
نشأتُ في دار هادئة لم ار والديَ يوما متخاصمين. اخوتي الثلاث كانوا مهذبين ومطيعين يشهد اهل الحي لهم بحسن الخلق والادب العالي اما انا فكنت مثال الفتاة التي يتمناها كل اب وكل ام , نحن الاربعة كنا متفوقين في دراستنا ولكل منا حلم يطمح بالجد والمثابرة الى تحقيقه .كنت انتقي رفيقاتي في المدرسة فلم تكن لي صديقات بل رفيقات ولي في ذلك وجهة نظر وهي ان تكون علاقتي بالأخريات قائمة على تبادل الآراء والصحبة دون التوغل في العلاقات الحميمة التي تكون بين الصديقات بحيث تعرف كل واحدة التفاصيل الاسرية لعائلة صديقتها .نعم لم اكن احب هذا النوع من التطور في العلاقات ذلك كي استطيع ان اكون علاقاتي المدرسية متى شئت او الاستغناء عنها دون ضرر متى شئت. ولم يكن اخوتي الثلاث
يختلفون عني في شيء وعلى هذا المنوال اكملنا دراستنا الابتدائية والمتوسطة حتى وصلت الى المرحلة الاعدادية يسبقني اخواي بمراحل, ولطالما حاولت الفتيات في هذه المرحلة التقرب مني لما يرينه من أناقة ملبسي ومنطقي وكمال اسرتي لكنني كنت دائما اضع خطا فاصلا لعلاقاتي لا يسمح للأخريات تجاوزه. إلا تلك الفتاة التي لاتكل ولاتمل من محاولاتها التقرب مني وتكوين صداقة خاصة بها .رغم انني لم اكن اسمح لها بذلك, لكنً أنيسة كانت طويلة البال وعلى استعداد لإهدار كرامتها من اجل الانفراد بصداقتي فكانت لا تتورع عن حمل حقيبتي الى باب المدرسة او احضار الساندويش وعلبة العصير الى صفي في الفرصة, ورغم أنني كنت احاول رفض معاملتها بطريقة مهذبة حينا وباشمئزاز وضجر احيانا لكنها كانت تقابل كل ذلك بأريحية غريبة. حتى جعلتني استسلم لإلحاحها واقبل مرافقتها لي على مضض تاركة خطا احمرا بيننا منعتها من تجاوزه ,وقد قبلت ذلك بسرور وامتنان ,وكنت اعجب لهذه الفتاة اللعوب التي تخفي شخصيتها المنفلتة تحت غطاء ديني مغرٍ. لكل من لايعرفها.كنت ارى وجهها ملطخا بالمساحيق اثناء مجيئها الى المدرسة وكانت تخفي هذه المساحيق فور وصولها ببراعة وهي في مغاسل الطالبات . وكانت تخبرني وهي تبتسم عندما ترى تعابير الاستغراب على وجهي انها تضعها ليلا كعلاج لبشرتها لكن اثارها تبقى للصباح !وكانت ترتدي تنورة تصل الى ركبتيها وتقوم باستبدالها بأخرى طويلة في غرفة الصف .واغرب ما رأيته منها مجيئها يوما الى المدرسة وهي تغطي وجهها بالنقاب وعندما سألتها ,,أجابت
-البوشي تمنع اشعة الشمس عن وجهي ,,فبشرتي هذه الايام تعاني من حساسية من نوع خاص وقد نصحتني الطبيبة بارتداء البوشي
لم اصدق أي من اكاذيب أنيسة بالطبع وبقيت على اصراري بوضع الخط الاحمر الذي يفصل علاقتنا حتى رأيت منها ما أثار استغرابي .إذ لم تعد تحضر لفائف السندويش التي كنت اعترض عليها كل يوم ولم تعد تهتم بانتظاري على باب المدرسة لمرافقتي رغم ان طريق دارها عكس اتجاه طريق دارنا .ورغم ارتياحي الشديد من الحاحها وملاحقتها لي ,لكنني كنت في فضول لمعرفة اسباب التغير المفاجئ الذي طرأ عليها .غير أنني سرعان ما نسيت امرها وعدت الى سابق عهدي في مبدأ تحديد علاقاتي مع زميلات الدراسة .حتى اشيع خبر زواج انيسة في المدرسة وانها تركت الدراسة لأن الرجل الذي تزوجت به ميسور الحال وقرر ان يغنيها عن عبئ المذاكرة التي تكرهها . ولم تمض ايام حتى نسيت انيسة بتصرفاتها الغريبة حتى كان يوم لن انساه ما حييت وهو اليوم الذي كان بداية انهيار اسرتنا بكل كمالها ومثاليتها وقوتها .وكان هذا اليوم هو يوم دخول انيسة الى دارنا الجميلة وهي برفقة ابي الذي قدمها لنا على انها زوجه. وفي هذه اللحظة بالذات عرفت مغزى محاولاتها التقرب مني وتذللها لمرافقتي اذ كانت انيسة في الحقيقة تحيك خيوط مؤامرتها للاستيلاء كما ظننت لأول الامر على ابي .وهكذا فرضت وجودها في دارنا كما فرضته على قلب وعقل ابي الذي لم يعد يثق الا برأيها ولم يعد يهتم الا بما تهتم به ولأن الجدال والمحاججة افضت الى تباشير عداوة محتملة بينه وبين اخوتي فقد ارتأت امي ان تحفظ لنفسها ولإخوتي ماء الوجه واتخاذ موقف الصمت والرضوخ للأمر الواقع. وحدي انا من كنت أبين لابي فداحة ما اقدم عليه ,اذ اطلعته على كل حيل انيسة وعلى تصرفاتها المخادعة واقسمت له انها ما ارتدت النقاب الا لمخادعته. لكن كل محاولاتي تكسرت على شواطئ اصراره على التمسك بها ,حتى بلغ به الامر ان وجه لي اتهامات باطلة بالحقد والغيرة منها. ولم تمض ايام حتى علمنا ان كل مواردنا الاقتصادية المتأتية من محلات ابي اصبحت تقاسمنا بها عائلة انيسة . وهنا تبين لي مغزى اختيارها أبي وأحكمت عائلتها التي اتخذت الشعوذة المغلفة بالتدين وسيلة لإتخام عقل ابي سيطرتها, إذ كان ابواها رغم علمهما بتخطيط ابنتهما يهيلان عليها صفات التطهر والقداسة وكانت كل احاديثهم مدعمة بأدلة وبراهين قائمة على المنامات .فتارة يرى فلان من اقاربهم انيسة وهي تطير حول قبر ولي من الاولياء ,وتارة تراها فلانة من المقربات وهي تسير جنبا لجنب مع الصدًيقًات ومرة اقسمت خالتها انها رأتها تطوف في عالم الحقيقة حول الكعبة عندما كانت تؤدي مناسك العمرة .وانا واخوتي من كنا نعلم بعلاقات انيسة مع شباب الحي ومغامراتها العاطفية التي بدأت في سن باكرة من حياتها. ولم تقف انيسة عند حدود الاستيلاء على ابي بل استولت ايضا على عقل امي وغرست في ذهنها انها من العرفانيات وان الاولياء يحيطونها بعنايتهم واخذت تقنعها بانها على علم ودراية بمصائرنا وما ينتظرنا فردا فردا وبمعونة امها واستخدامها لطريقة الالحاح والاذلال نفسها التي وصلت بها الى ابي استولت انيسة على عقل امي واقنعتها ان اكمال الدراسة بالنسبة لي ما هو الا نثرُ للقمح على الاشواك ,وانني لن انال شيئا من سهر الليالي والارهاق سوى العنوسة وشماتة الاقارب حتى اقنعت امي بفكرتها اذ كانت لا تتورع بأن تتظاهر بان احد الاولياء يسكن جسدها فتقوم بضرب نفسها في الجدار واعتصاره حتى يكاد ينفجر وقد كنت على علمي بأنها كاذبة اكاد اصدقها! وحاولتُ مرة ان احرجها امام والدي فسألتها ..لماذا لمْ تكوني متفوقة اذا كنت بعناية الاولياء كما تدعين؟ فاحمر وجهها غيظا حتى ظننت انها لن تتوانى عن قتلي ثم اجابت بخشوع غريب ان الاولياء لا يريدونها ان تكون ابنة مدارس .فالمدارس للمنفلتات’ وبالتالي يريدونها ان تقوم بمهمتها الكبرى التي حددوها لها… وهي شفاء الناس من امراضهم واختبار الطالع لهم ليستدلوا بفضلها على ما يناسبهم في الحياة .وبهذه الافكار تربعت انيسة على عرش دارنا ورفضت امي الانصياع لنا انا واخوتي فأي امر يذكر فيه اسم الاولياء يعد مقدسا لديها ولامجال لمناقشته. وزوجني ابي بعد ان كنت قاب قوسين من تحقيق طموحي في ان اصبح طبيبة واقنعته انيسة وتحت صمت امي ورضوخها ان اخي الكبير احمد ينظر اليها بعين النجاسة وانه لن يجلب لهما سوى العار. فاضطر احمد الى الهجرة الى الاردن بعد ان ضاقت امامه سبل الاقناع وتحطمت امال شقيقي اكرم ففضل العمل في احد محلات ابي واصبح خادما مطيعا لأنيسة ظنا منه انها اسلم طريقة للحفاظ على اموال ابي في حين بقي اخي الصغير مرتضى يكافح من اجل الوصول الى مالم نصل اليه ثلاثتنا. وربما ما استطاعت أنيسة الوصول الى غايتها في تشتيتنا لولا هيمنة الحصار الاقتصادي وانهيار قيمة الشهادة والوظيفة الحكومية. فكان أن تحققت مآربها و تركت دارنا خرابا يحمل افرادها صفات الفشل والخيانة والضياع .ولم تغادرها بعد رحيل ابي عن الدنيا الا بأكبر قدر من الاموال والممتلكات حيث لم تبق لنا الا النزر القليل وسط استغراب امي من افعالها وان كانت في قرارة نفسها تخشى لوم انيسة لان هالة القدسية مازالت تسيطر على عقلها.

الإدارة

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى