طائرة الإياب بقلم: “لطيفة النواوي”
لحظات قليلة وتقلع الطائرة لتوصلني لأرض الوطن،بعدما هاجرته وأنا في سن المراهقة،لقد إعتقد والداي أن نشأتي مع عمي في الديار الأوروبية، سوف تجعل مني سيدة أعمال ناجحة، وأنني حين أتشبع بالثقافة والتعليم الغربي، سيجعلني هذا شخصية مميزة.
ولكن يال العجب! فجل ما نهلته من أدب وثقافة كان بقراءة بل إلتهام الكتب والروايات، ذات الثقافة العربية ولكتاب معظمهم من بلادي..
أخيراً حانت لحظة وداعي لهذا الصقيع المجمد، لأرتمي بأحضان الوطن الدافئة، والشمس المشرقة طوال السنة..
كم إشتقت لطفولتي، وللدرب الضيق أين تسكن جدتي،لأصدقائي الذين صاروا رجالا مكافحين، منهم جنوداً وأطباء ومعلمين..وصديقاتي سيدات متزوجات الآن، ولكل منهن طفلان أو ثلاثة..
رباه! أكنت الآن أما لو بقيت بالبلد ولم أهاجر؟ أو لعلي كنت موظفة أو عاملة؟
هل صديقاتي عرفن الحب كي يتزوجن، وينجبن جيلا جديداً ؟ أم تحججن بكلمة “النصيب” لكي يتفادين كلمة “عانس”؟ ترى بماذا سوف يجبن، إن سألتهن بناتهن يوما ما عن الحب؟
أراني تعمقت في تفاصيل الحي الشعبي، كأني أركض فيه كما في طفولتي من زقاق لزقاق..ها أنا أمام الفرن أشتم رائحة رغيف القمح الطازج،وأسمع أصوات الباعة وهم يعرضون بضائعهم بالسوق الشعبي،ياااه كم هي منعشة رائحة النعناع الطري!وطعم البرتقال الشتوي،كم تغزلت بحبات العنب بكل ألوانها،..
“المرجو من الركاب الكرام ربط الأحزمة!”
أخيراً نطقت هذه الجملة التي كنت أنتظر سماعها، طوال الخمسة عشرة سنة الماضية،كنت أتلهف شوقا واحتراقا لتطأ قدماي مجددا أرض الوطن،درجة أني مستعدة أن أمشي على ترابه، حافية القدمين دونما اكتراث لأصول الإتيكيت واللباقة الإجتماعية..
نعم، أعلم أن أمي لن ترضى، وسوف تموت غيظا، من تصرفاتي الصبيانية في نظرها:
“ماذا تفعلين يامتعلمة يا متحضرة،ألن ينضج عقلك أبدا؟ ماذا إذن إستفدنا من تعليمك خارج البلاد؟”.
وكما يمكنكم أن تتخيلوا كم مرة تتردد على مسامعي هذه التساؤلات..!
“طائرة الإياب”
لطيفة النواوي
أميرة الصمت