أدب الأطفالإقرأ

الكتابة الأدبية للأطفال جدواها وجدارتها بقلم أ. محمود شقير

بقلم محمود شقير
تكتسب الكتابة الأدبية للأطفال جدواها وجدارتها، بقدر تلبيتها لاحتياجات الأطفال المعرفية والنفسية والعاطفية والجمالية والترفيهية، وبقدر ما تمكنهم من عدم الانجرار كلياً وراء ثقافة الصورة التي تحملها إلى الأطفال، أجهزة الإعلام الحديثة، التي تهدد الكتاب المقروء وتمعن في إبعاد الطفل القارئ عنه على نحو خطير.

انطلاقاً من ذلك، ومن معاينتي لعدد من النصوص الشعرية والقصصية المكتوبة للأطفال في فلسطين وغيرها من البلدان العربية، فقد لاحظت أن ثمة طغياناً للوظيفة التوجيهية لأدب الأطفال على حساب الوظائف الأخرى التي لا تقل أهمية عن الوظيفة المذكورة ، بل إن هذه الوظيفة التوجيهية تتجلى في عدد من النصوص على نحو مبالغ فيه ، بحيث تبدو فيها نزعة الوعظ والرغبة في التلقين مخلة بشروط العمل الأدبي وبجمالياته، وتفضح من وجه آخر، ما تواطأ عليه الكبار من فهم خاطئ مؤداه أن الطفل كائن ضعيف مفتقر الى من يمد له يد المساعدة في كل شئ، فلا يلبث هذا التواطؤ أن يستفحل الى أقصى حد، مما يولد حالة من الاستهانة بذكاء الطفل، والمجازفة بتقديم نتاجات أدبية مختلفة، دون تبصر في حقيقة موقف الطفل منها، ومدى تقبله لها، ودون اعتبار لمدى تلبيتها لاحتياجاته العاطفية والنفسية، أو إدخال المتعة إلى نفسه أثناء القراءة، وهو الأمر الذي يغفله بعض كتاب الأطفال، فيكتبون للطفل أفكارهم ورؤاهم التي لا تتلاءم مع إدراكه الغض، ويقدمون له مشاعرهم وأحاسيسهم التي لا تتطابق مع مشاعره وأحاسيسه، للفارق الكبير بينهم وبينه في العمر والتجربة والثقافة والإدراك.
إن لدى الأطفال قدرات على الإدراك وعلى فهم الأمور بطريقتهم الخاصة، وهو أمر قد يبدو مفاجئاً للكبار في بعض الأحيان. وللتدليل على ذلك أسوق بعض الأمثلة: كنت قبل فترة وجيزة، أشاهد مجموعة من الأفلام القصيرة لعدد من المخرجين من بلدان عديدة، في ذكرى جريمة الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك. من بينها فيلم من أفغانستان، تسأل فيه المعلمة تلاميذها الذين لا يتجاوز عمر الواحد منهم خمس سنوات: من الذي دمر برجي التجارة في نيويورك؟ يجيب أحد الأطفال: الله هو الذي دمر البرجين. يتصدى طفل آخر للتعليق على هذه الإجابة قائلاً: ولكن ليس لدى الله طائرات. يؤكد الطفل الأول: الله دمر البرجين، وهو الذي يميت الناس ويخلقهم. يعلق طفل آخر قائلاً: ليس الله مجنوناً لكي يميت الناس ثم يخلقهم.
كذلك، فقد لاحظت الأمر نفسه في نصوص بالغة التكثيف، مفاجئة، كتبها أطفال، وجمعتها الكاتبة Nanette Newman في كتاب عنوانه Small Talk، أقتبس منه ما يلي: كتبت أليس (5 سنوات) تقول: To get married you have to shave your legs I think
وكتب نورمان (6 سنوات): I wouldn’t fall in love because girls are all spotty and they wisper ، وكتب نيك (6 سنوات) : my dad was going to marry my mum but he forgot. وكتبت آنا (5 سنوات) : I am helping my Mummy choose my next Daddy وكتب أندريه (6 سنوات) : once you’ve had a baby you can’t put it back. وكتبت تينا (6 سنوات) : A new borned baby can’t talk it just thinks all day
ولتجنب نزعة الوعظ والإرشاد والمباشرة في التوجه إلى الأطفال، ربما كان من المناسب التذكير بقصة ” Pippi Long Stocking ” للكاتبة السويدية Astrid Lindgren ، لتبيان ما يلحقه الإصرار على الوعظ المباشر والتلقين من قمع لخيال الطفل، ومن تدجين لفضوله المعرفي، ومن خلق قيود جديدة تكبله باسم الحرص عليه ، وتنشئته على نحو صحيح .
ففي هذه القصة المتميزة تتجنب الكاتبة نزعة الوعظ المباشر والتلقين تماما، وتسمح لبطلة قصتها بحرية الحركة والفوضى ، وتشجعها على كسر النظام المألوف ، وعلى القيام بمغامرات جديدة ، وعلى ارتكاب مخالفات صغيرة ، دون أي تدخل منها لنقدها أو ادانتها الا على نحو غير مباشر ، وباسلوب غاية في الذكاء ، فالطفلة ” Pippi ” ” ليس لها أب ولا أم . وهي تحبذ ذلك ، لأنه ليس هناك من يأمرها بأن تذهب للنوم في المساء ، ولاسيما عندما تكون في قمة نشاطها وبهجتها . فهي تفعل دائما ما تريد”، وحينما كانت تخفق البيض لتحضير الفطائر لها ولصديقيها ، فان بيضة تنكسر على رأسها ولا تكترث لذلك ، بل تقول ” لقد سمعت دائما أن صفار البيض مفيد للشعر “، وحينما تأكل ” فهي تستلقي على الطاولة ، وتضع الطعام على الكرسي ” ، حيث ” لا يوجد هناك من يطلب منها أن تجلس بطريقة صحيحة “، “وعندما تنام ” Pippi ” تضع قدميها على الوسادة ورأسها تحت الغطاء . انها تفضل النوم بهذه الطريقة . ولا يوجد هناك من يأمرها بألا تفعل ذلك”، وفي حين ” قامت ” Pippi ” بترتيب طاولة المطبخ بشكل جميل “، فانها شربت الشوكولاته السائلة ثم ” قلبت الفنجان على رأسها كأنه ” طاقية ” ولكنه لم يكن فارغا تماما ، فسالت بقايا الشوكولاته على وجهها “، وبعد ذلك تلعب هي وصديقاها لعبة القفز ” في أنحاء المطبخ فوق الأشياء الموجودة فيه ، دون أن يلمسوا الأرض ” ، وفي النهاية يضطر صديقاها الى مغادرة بيتها، تقول صديقتها كأنها عائدة الى مكان لا يروق لها : ” من المؤسف أننا يجب أن نعود الى البيت في النهاية “.
إن هذه القصة وهي تمارس تحريضها ضد السائد والمألوف ، استجابة منها لرغبات الأطفال في المشاغبة والعبث والتحدي ، لم تتوقف عن تكرار ثيمة واحدة بعينها تؤكد على أن الطفلة تعتمد في كل شئ على نفسها، وتلك قيمة تربوية ما كان يمكن لها أن تصل الى قرارة نفس الطفل الا ” بالتجرؤ على الواقع ، بكسر قيوده ، وتجاوز حدوده ، واعادة تركيب العلاقات بين عناصره ، أو اعادة استخدام أدواته. ولا يتاح ذلك الا من خلال الانطلاق في الخيال الخلاق الذي يتجاسر على جمود الواقع ، ويتجاوز صلابته ” على حد رأي أحد النقاد العرب.
ولعل تجربتي في الكتابة للأطفال أن توضح فهمي لكيفية الدخول إلى عالم الطفل، كما توضح بعض خصوصيات الكتابة النابعة من طبيعة الوضع الذي يحياه الشعب الفلسطيني، فقد انصبّ اهتمامي إلى حد كبير، وأنا أكتب قصصاً قصيرة ومسرحيات للأطفال، على الهم الوطني. كنت معنياً بجذب الأطفال إلى حب الوطن، وإلى التعلق بالأرض، وإلى رفض سلطة العدو المحتل للوطن والأرض. وقد ألهمتني انتفاضات الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، والأذى الذي يتعرض له أطفال فلسطين، كتابة قصص ترصد مشاعر الأطفال لدى رؤيتهم لجنود الاحتلال وهم يقمعون مظاهرات الاحتجاج السلمية أو يفرضون منع التجوال على المواطنين الأبرياء. وكتبت قصصاً عن أطفال حقيقيين استشهدوا على أيدي جنود الاحتلال. كتبت هذه القصص محاولاً ما أمكن تجنب المباشرة الصارخة، وكنت معنياً بأن تصل الفكرة إلى الأطفال دون شعارات أو خطب بليغة، وأعتقد أن أفضل ما كتبت في هذا المجال، قصة “الجندي واللعبة” التي استوحيت مادتها مما وقع فعلاً مع طفلتي الصغيرة على الحدود، وهي عائدة مع أمها من الأردن، حينما قام جندي إسرائيلي بتمزيق لعبتها البلاستيكية خوفاً من وجود مادة متفجرة بداخلها. بالطبع، فإنني لم أكتف بالمادة الخام لتشكيل القصة، وإنما تصرفت بهذه المادة على النحو الذي أحالها إلى قصة فنية.
فيما بعد، كتبت قصة طويلة للفتيات والفتيان، تتناول الرغبة في التعايش وإحلال السلام العادل، ومحاولة التعرف إلى تفكير الآخر، علاوة على تطرقها لبعض مظاهر تخلفنا الاجتماعي، وبالذات حينما يتعلق الأمر بالمرأة أو بالفتاة، وحينما يتعلق الأمر بالدور التقليدي الذي تلعبه المدرسة والأسرة وغيرها من مؤسساتنا الاجتماعية، ما قد يدفع بعض فتياتنا إلى طريق خاطئ، وإلى الهرب من بيت الأسرة كرد فعل على المعاملة السيئة التي يلقينها هناك. وكتبت رواية للفتيات والفتيان فيها الكثير من الخيال والفانتازيا، أناقش فيها فكرة التعايش مع الآخر أيضاً، وهي الفكرة التي يقف الاحتلال عائقاً أمامها. الرواية تنطلق من فكرة خيالية لحل الصراع، ثم تنتهي بضرورة إلغاء الأسلحة من حياة البشر والتطلع إلى الحرية والحب والطمأنينة والسلام. وفي هذه الرواية ثمة انتباه إلى التعددية التي يتسم بها المجتمع الفلسطيني، فأبطال الرواية هم من المسلمين والمسيحيين الذين يعيشون في حالة تامة من التفاهم والانسجام.
كذلك، فقد انتبهت في قصصي إلى الجانب الاجتماعي في حياة الأطفال. ثمة أطفال يعيشون في أسر فقيرة. كيف نتعامل مع موضوع الفقر مثلاً؟ بعض الكتاب يعمدون إلى معالجات سوداوية تدخل الحزن إلى نفوس الصغار. والمطلوب عدم إدخال الحزن إلى نفوسهم، وعدم تحميلهم ما هو أكبر من قدراتهم. إذاً، يمكن أن نتحدث عن الموضوع بطريقة حذرة ، وبما يجعل الطفل متفهماً لظروف أهله، فلا يلح في طلباته الكثيرة، وقد فعلت ذلك في بعض قصصي بحيث يكتسب الطفل خبرة جديدة ووعياً جديداً، ولكن دون الدخول به إلى تعقيدات لا حاجة له بها.
كتبت قصصاً أخرى تجعل الأطفال محبين للطبيعة من حولهم ومندفعين إلى التفاعل معها والاستمتاع بمظاهرها من مطر وغيم وأشجار وجبال. ولعلنا نتذكر تلك الجملة التي وصف فيها الروائي الكولومبي الشهير غارسيا ماركيز، علاقة أهل المدينة بالريف، حينما قال إنهم حينما يتحدثون عن الريف، يقولون: إنه ذلك المكان العجيب الذي تمشي فيه الدجاجات وهي نيئة! (وذلك انطلاقاً من أنهم لا يرون الدجاج إلا وهو مشوي خلف الفاترينات الزجاجية للمطاعم). وقد كتبت قصصاً تربوية تعلم الطفل بعض أساليب السلوك الصحيح، كما كتبت مسرحية للفتيات والفتيان حول الممارسة الديمقراطية داخل الأسرة، وكتبت مسرحية أخرى حول ضرورة الحفاظ على بيئة نظيفة. ومسرحية ثالثة حول الخوف الذي يسببه الاحتلال وعساكره للأطفال الفلسطينيين، وكذلك حول ضرورة انصراف الأطفال إلى دراستهم وألعابهم، وتأجيل مشاركتهم في مقاومة الاحتلال إلى أن يبلغوا سن الرشد. كما كتبت قصة اسمها “الملك الصغير”، أتحدث فيها عن أهمية التسامح وتفهم الآخر وعدم اللجوء إلى العنف لحل النزاعات.
أبطال قصصي هم من الأطفال والبشر العاديين، وأهتم في قصصي بإبراز دور البنت تماماً مثلما أهتم بدور الولد، وأهتم بدور المرأة اهتمامي بدور الرجل، كما أنني ألجأ في بعض قصصي إلى أنسنة الحيوانات والطيور والاستعانة بها لأداء أدوار البطولة في هذه القصص، وأستمد العون في ذلك من التراث العربي القديم الذي جسد في كتاب “كليلة ودمنة” حكايات تدور كلها على لسان الحيوانات، وفيها مجموعة من القيم التي ترشد الناس إلى أفضل السبل للتعامل مع بعضهم بعضاً وإلى فهم أفضل للحياة. أما الحمار فله مكانة خاصة في قصصي، وقد كتبت قصصاً عديدة بطلها حمار. وفي الوقت نفسه ففي قصصي دفاع عن حق الأطفال في اللعب. وقد كتبت قصة استفدت فيها من واحدة من شخصيات تراثنا المحكي، وأقصد هنا “الشاطر حسن” الذي يقرأ في دفتره بعض الوقت ثم يحول الجبال إلى ذهب، بمعنى أن قراءته في الدفتر تجعل أوامره مطاعة. يستعير الطفل “ماهر” الدفتر من الشاطر حسن ثم يحول رجال الحي الذي يقيم فيه إلى ملوك ونساء الحي إلى ملكات مدة يوم كامل، لكي تتاح له ولأصدقائه من الأطفال فرصة للعب من دون تدخل من ذويهم. كل ذلك بأسلوب ساخر تتحقق من خلاله متعة القراءة، التي هي أهم شرط من شروط الكتابة للاطفال.
كما نشرت خمسة كتب تعالج موضوعات محددة ولغايات تعليمية. من بينها كتاب مكرس لذوي الاحتياجات الخاصة، آخذاً بعين الاعتبار عدم عرض هؤلاء كما لو أنهم موضوعات غريبة، وإنما ينبغي التعامل معهم كما نتعامل مع أية شخصية طبيعية تقوم بأعمال طبيعية، منتبهاً في الوقت نفسه إلى حقيقة وجود حواجز في المجتمع تعرقل محاولات المعاق نحو حياة طبيعية ناجحة، حيث أن غالبية المعاقين يعانون من التمييز ضدهم في مجالات العمل وفي التعليم وحتى في المواصلات العامة وغيرها من مجالات الحياة اليومية. وكتاب آخر مكرس لإلقاء الضوء على طبيعة معاملة الطفل. بطل الكتاب طفل يتعرض للعنف في البيت وفي المدرسة وفي المجتمع، ما يجعل سلوكه عنيفا مع أقرانه من الأولاد. وكتاب آخر مكرس لمعالجة موضوع التسرب من المدرسة والذهاب إلى العمل في سن مبكرة.
أميل في الكثير من قصصي إلى الاهتمام بعنصر الفكاهة والسخرية لإمتاع الطفل أثناء القراءة، وأظن أن هذا النوع من الكتابة يحتاج إلى جهد خاص. وأميل إلى العناية بعنصر الخيال لما له من أهمية في إغناء عالم الطفل وتوسيع مداركه، وأحرض على استخدام اللغة الفصيحة المبسطة التي تتلاءم والتحصيل المعرفي للطفل وقدرته على الاستيعاب.
مع ذلك، أعترف بأن عالم الأطفال ليس سهلاً، والدخول إليه يحتاج إلى تحصيل معرفي وخبرة حياتية ومراس أدبي، وأعترف أن بعض قصصي التي نشرتها في السنوات الماضية، تميل إلى التركيز على وجهات نظر خاصة بي، من دون أن تكون بالضرورة مقنعة للأطفال أو جاذبة لاهتمامهم. وحينما أقرأ بعض صفحات من كتاب “Harry Potter” للكاتبة J.K.Rowling أو أشاهد بعض مشاهد متلفزة منه، فإنني لا أجد متعة في المتابعة، ولا أفكر بكتابة مثل هذه الكتابة الممعنة في السحر والغرابة والمغامرات، لاعتقادي أن ليس هذا ما يحتاجه الأطفال في بلادي وفي العالم سواء بسواء، ومع ذلك، فإن ملايين النسخ قد بيعت من هذا الكتاب، الذي أثار اهتمام أطفال العالم على نحو أكيد، وهذا بدوره يطرح من جديد أسئلة عديدة عن: كيف ندخل إلى عالم الأطفال؟ وماذا نكتب لهم؟

الإدارة

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى