فعل القراءة بقلم الدكتور حبيب مونسي
فعل القراءة… ليس فكا لحرف وإنّما قراءة لوجود
لهذا السبب فتح الإسلام شرط القراءة في أول كلمة من كلمات الوحي.
كتبه حبيب مونسي
====
ينبثق فعل “القراءة” في القرآن الكريم من فعل الخلق والإبداع الذي يرتدّ بالإنسان إلى تشكّله العقلي الأول كمبتدئ التخلق فيه. ثم النموّ الجنيني ثم الاستكمال السّوي في أحسن صوره، وكأنه إحالة على وظيفة الفعل القرائي المشروط “باسم ربك” نحو الكمال الإنساني.
والفعل هنا ليس استهلاكاً لموروث وحسب أو اجتراراً لما هو كائن ومسطور، وإنّما هو فعل إبداعي يهدف إلى تعليم يؤمِّم وجهه شطر المستقبل بغية أن يحقِّق للإنسان “مالم يعلم”. فهو والحالة هذه مشروط بالكتابة لأنّها: “علم… لا علم بالمعلوم وحسب بل بالمجهول كذلك” يؤديها القلم في تجسيدها الخطي، وتمظهرها المادي، وإن كانت أوسع من ذلك وأشمل تنتهي إليه في صورتها الأخيرة. لذلك وصفها العرب بـ: “صناعة روحانية تظهر بآلة جثمانية دالة على المراد بتوسط نظمها” وهو إدراك له خطورته في تحديد طبيعتها، وفي ارتباطها بالقراءة إذ أنّها لا توجد ذاتها لكي تقرأ، بل تأبى إلاّ أن تكون هي نفسها قراءة تتجسد في فعل خطي حتى تضمن لنفسها البقاء. ذلك لأنها تجسّد الروحانية فيها: “بالألفاظ التي يتخيلها الكاتب في أوهامه، ويتصورها من ضمِّ بعضها إلى بعض صورة باطنة قائمة في نفسه. والجثمانية بالخط الذي يخطّه القلم، وتقيّد به تلك الصورة وتصير؛ بعد أن كانت صورة معقولة باطنة، صورة محسوسة ظاهرة… إن هذا التحديد يشمل جميع ما يسطره القلم مما يصوّره الذهن ويتخيّله الوهم، فيدخل تحت مطلق الكتابة”.
فإذا كانت “الكتابة” تأبى إلاّ أن تكون “قراءة” في أوسع دلالتها، انطلاقاً من الارتداد إلى مبتدأ الإنسان، وانتهاء إلى تجسيد الوجود تصوراً، وتأملاً، وتفكراً، وتعقلاً، وإدراكاً… فلأنها تصبو إلى: “وضع العالم واقعاً وغيباً، صورة ومعنى في نظام لغوي… رؤيا خاصة للعالم في تعبير خاص”. كما كان الشأن مع القرآن الكريم قبلاً، فالقرآن الكريم آذان بـ: “نهاية الارتجال والبداهة… وهو بمعنى آخر نهاية البداوة وبدء المدينة. إنّه بداية المعاناة والمكابدة وإجالة الفكر، القرآن إبداع للعالم بالوحي من حيث أنّه تصور جديد للعالم، وتأسيس له بالكتابة”.
إذن ليس من باب المصادفة “السعيدة” أن تكون أول كلمة يفتتح بها باب الوحي فعلاً “آمراً”، والفعل يوحي بالحركة في كلّ أشكالها المعنوية والمادية، وزيادة كونه أمراً يُحمِّل الحركة إلزاماً لا يسلم منه أحد، حتى أولئك الذين يتذرعون بعدم معرفة “فك الحرف”، لأن الفعل هنا يتخطى رمزية الحرف إلى رمزية الوجود كلّه: (ولا تقف ما ليس لك به علم إنّ السّمع والبصر والفؤاد كلُّ أولئك كان عنه مسؤولا) “الإسراء 36” فيغدو الكون “كتابة” تتقاطع فيه كلّ أشكال العلامات، ناطقة وصامتة، متحركة وساكنة، لونية وعديمة اللون، شمسية وعديمة الرائحة، وكلّ الهيئات والأحوال، والتي نعتها الجاحظ “بالنّصبة” وهي وإنْ تضمنت الخط (Trace) توسعت إلى اللفظ والإشارة، والعقد، والحال: “هكذا تتحوّل النّصبة من وظيفتها الدلالية في التعبير إلى وظيفة ميتافيزيقية، وتصبح النّصبة هي السماوات والأرض، أو هي الخلق الذي لم يخلقه الله سدى” وكلّ عقل سوي إذا ألزم نفسه أمر “القراءة” كان بمقدوره أن يطلّع على “الكتابة الكونية” وذلك لاستحالة اللفظ احتواءها: “ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام” والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدَت كلمات الله” إذ ليس معقولاً أن تكون الكلمات هُنا مِمّا هو متعارف عليه من حروف متآلفة، وإنّما هي النَعمُ، والأعاجيب، والصفات، وما شابه ذلك. وهي قائمة وراء اللغة ومعانيها، لكلّ جيل منها نصيب، ينْضافُ إلى نصيب الأجيال الأخرى، ويتراكم دون أن ينفد أو ينقص.
وفعل القراءة من هذه الوجهة مكابدة مستمرة، تصاحب الإنسان، من أول سؤال يتفوّه به، إلى آخر اقتناع يستقر عليه، أو يقضي في نِشْدانه،