القصة

لوحة النظام السابق، من أروع القصص بقلم: الدكتور العراقي: سامي الجبوري

لوحةُ النِّظام السابق
قِصَّةٌ قَصيْرة
رصيفُ الجسْرِ المُلْتهب مِنْ حرارةِ الشَّمسِ وزِحام النَّاس كان بَاراً به ؛ يستلقي مُتعباً عليه كُلَّ يومٍ ليعْرض رُسوماتَهُ للبيع ، ولا أحد يُثمِّنُ فنَّهُ سِوى نخبة مِن فُقراءِ الأدبِ والفنِّ والثقافة ؛ فهم يستمْتعون بانجازاتهِ ويُحلِّلون مَغزى المُحتوى في هذه اللَّوحة أو تلك ويُشجعونه على صَنيعه ، وفي النِّهاية يرحلون مِنْ دون شراءِ إحداهن ؛ أو باستحياءٍ يأخذُ أحدهُم إحدى اللَّوحات بثمنٍ بخسٍ ؛ أو يُدوِّنها في سجلِ الدَّين الذي لا يُسدَّد ابداً .. بدأ فنُّ سعيدٍ يتطوَّرُ يوماً بعد آخر – وهو لا يكترث بجهلِ سواد النَّاس الذين ينظُرون إلى لوحاتهِ بازْدراءٍ وسطحيَّةٍ مُتهرِّأة – يقرأُ تارةً عن مدراس الرَّسم العالميَّة ؛ وتارةً أُخرى يُفتِّشُ برؤيةِ عقلهِ عن أساليب ليُوناردو دافِنْشي ؛ وبابلو بيكاسو ؛ وفَان كوخ ، ومايكل انجلو ؛ وكلُود مونيه وغيرهم … السرياليَّةُ والعجائبيَّةُ والطبيعةُ حاضرةٌ في لوحاتهِ التي ينفذُ مِنْ خِلالها إلى عوالمَ لا يفْقهها إلاَّ المُتذوِّق للرَّسم ؛ وريشتهُ التي تُبحرُ بأشرعةِ التَّميُّز تنسجُ مَلاحمَ من الألوانِ المُمتزجةِ بثوْريته المَعرفيَّةِ الباعثةِ للرَّاحةِ والطمأنينة ، ولكنَّ قارعةَ الطريق ما زالتْ تجلدهُ اهمالاً وتُلقي فَنَّهُ في سَلَّةِ المارة المُتبضِّعين الذين أنْكهم بُؤس الحال ؛ وهُم يبحثون عن ما رَخُص ثمنهُ مِن الطَّعامِ لتسمين حقائب التبضُّع والرُّجوع بها إلى المنازلِ مُنتصرين بما ظَفَروا ؛ ولا حِراك يُذكرُ مِن قِبلهم لتقدير ما سَطَّرَ وأطَّر ؛ إلى جانبِ فُرسان البلديَّةِ الذين حَفَروا في جُدْرانِ ذاكرتهِ مَسَلاَّت بطوليَّة لنقشِهِم ركلاتِ الأحذيةِ في جَبين المَعالم الحضاريَّة والشَّخصيَّات المَرسومة في اللَّوحاتِ المَعرُوضةِ للبيع ؛ مَع مُصادرة بعضِها ورمي البعض الآخر مِن أعلى الجسْر لتتهاوى سابحةً في النَّهرِ الماسحِ للألوانِ والمُبعثرِ للتشكيل كُلِّه.. وهُناك قهْقهاتُ البائعة المُتجوِّلين الذين يفترشونَ الرَّصيفَ بقُربهِ وضجيْجهم وأحادِيثهم الفارغةِ أشْواكٌ نبتتْ بين أزهارِ أفكارهِ المُتَّقدة ؛ وما زالَ شبحُ الغباء يفْتِكُ بوعْيه وطُرق التَّافهِين تُشتِّت أمانيه .
ظلَّ سعيدٌ يُصارع هذا المَشهد ويُشعلُ جمْرَ صبْره علَّهُ يَظْفِرُ بمالٍ يكفيه لسدِّ رَمَقه وتقديرٍ لعمله .. الأخبارُ تتوالى على إذاعةِ انباءٍ تُؤكِّدُ وجودَ تحرُّكاتٍ مَشبُوهةٍ هُنا وهُناك مِن مَجاميعَ تنوي الإضِرار بالبلد ، والشَّارعُ يترقَّبُ والألْسُنُ تتهامَسُ في الأسواقِ والمَقاهي والمَجالس عَن صِدْقِ الأخبارِ أو كذبها ، وسعيدٌ وأمثاله ما زالُوا يحْرِثون الأماني في أرضٍ صلْدةٍ … ذلك الشَّعرُ الكثيف المائِل إلى البياض ؛ وتجاعيدُ الوجهِ المُتهالِك وهَزالة الجسْمِ ونحافته ؛ وعُنوانُ الثيابِ الرَّثةِ المنسوجةِ برائِحةِ العَرق المُتصبِّب دلالةٌ استدلَّ مِن خِلالها فرحانٌ على سعيدٍ وسط أُسطُورة الجسْر ؛ تصافحا وعرضا سريعاً شريطَ الذكريات في تلك المدرسةِ التي كانا يدرسانِ فيها ويجلسان سويَّة في مقعدٍ واحدٍ ؛ وقلَّبا دفاترَ أيامِهما على عُجالةٍ ونفثا ما عندهُما بشوقٍ ؛ وتوالتِ الضِّحكاتُ وتناثرتِ الابتسامةُ من وجهِ سعيدٍ عندما عرضَ عليه فرحانٌ المُشاركة في مهرجانٍ تُقيمُه الدَّولة بمُناسبةِ عيد الاستقلال ؛ شرط أنْ تكونَ اللَّوحاتُ مُعبِّرةً عن الوطنِ وشعبهِ والقائد وما يتعلَّق بالحكومة ؛ وسيحصلُ على أجرٍ عَالٍ جداً وتبقى رُسوماتهُ تتناقلها وسائِل الإعلام .. انْتفضَ سعيدٌ ولمْلم حاجيَّاتهُ وهجرَ المكانَ لتنفيذ ما طُلب منه خِلال أسبوعٍ واحد .. في منزلهِ المُتواضع القابع في أطرافِ المدينةِ اسْدلَ سِتارَ غُرفته وبادلَ ذوقَهُ أدوارَ الأفكار التي ستكونُ طاغيةً على لوحاتهِ التي يجب أنْ تليقَ بالمحْفلِ المَهيب ، شعبٌ يَهتفُ لقائِده ، قائِدٌ يعتلي المِنصَّة شامخاً ؛ قياداتٌ تنْحني تواضعاً للقائِد ، جَحافلُ الجيُوش تزهُو بقوَّتِها ؛ رِماحٌ مُصوَّبةٌ نحوَ العدو ، خيُولٌ تتصاهَلُ تقدُّماً ، وأُخرى وأُخرى تَصبُّ في الاتجاه نفسه .
كانَ مُنْدهشاً لأناقةِ القاعةِ وضخامَتِها وفخامةِ التَّحضيرات فيها ؛ وجعلَ عينيْه جاسُوساً يتفرَّسُ ملياً بكُلِّ الزَّوايا الجميلة ليستمتع بما كان يُشاهدهُ فقط عبرَ التِّلفاز ، وضعَ لوْحاتَهُ في الجناحِ المُخصَّصِ له ورتَّبَها بحسب فلسفته التي يظنُّ أنَّها ستنجحُ في استمالةِ الجمهورِ مِن النُّخبِ والمسؤولين .. غادرَ المكانَ ومعهُ أحلام اليقظةِ في أنْ تنالَ إحدى لوحاته بصْمة المُوناليزا بعيون الحاضرين .. يومان فقط على بدءِ الإحتفال وستتغيَّر الأحوال كما ظنَّ وشاء ..
سوقُ المدينةِ الكبير مُكْتظٌّ هذا اليوم بعد أنْ تركَهُ لأسبوع ؛ ووجوهُ النَّاسِ بدتْ عليها صُور الحَيرة والقلق ؛ وفي تلك المَقهى وتلك جمهورٌ يترقَّبُ الأخبارَ ويتربَّصُ بحديثِ المُذيع وما يَبثَّهُ من أشجانِ العُنفِ والسياسةِ المَقيتة ، لم ترقْ لهُ هذه الأجواء ولا ينتمي لعالمها ؛ والسياسةُ عندهُ بئْرٌ مُعطَّلٌ وئِد في طفولةِ الفِكر ، همُّهُ افتتاحَ المهرجان بعد يومين لينل بعضاً ممَّا سعى من أجلهِ طِوالَ حياته .. في صباحِ اليومِ التَّالي مُكبِّراتُ الصوتِ تتعالى في الشَّوارع مُعلنة عدم مُغادرة المنازل ، والعياراتُ النَّاريَّةُ تتغنَّى في جَسدِ السَّماء ولا مجال لرؤيةِ ما يحدُث في الخارج ؛ خطواتٌ مٌتباطِئةٌ تُوصِلُ سعيداً نحو التِّلفاز المُقْفلِ مُنذُ زمن ليعرِف ما يَجري من أحداثٍ ، وفجأة يُداهِمُ مَسمعهُ صوتٌ أجشٌّ بنبرةٍ عاليةٍ تُهلهلُ البيان (رقم واحد) للإنقلابيين وسيطرتهم على الحُكم ، وبدأ التهديدُ والوعيدُ يُلاحقان أزلام النَّظام السابق .. اتكأ سعيدٌ على أريكةٍ قديمةٍ توسَّطتْ تلك الغُرفة المُعتمة لشحَّة نُورِ الشَّمس الدَّاخل إليها من نافذةٍ صَغيرةٍ كانتْ مُتَّشحةً بالغُبار ، وأحلامهُ تتأرجحُ به بين الصَّدمةِ والدَّهشةِ ولا همَّ لهُ سِوى سحب لوحاته الجاثمةِ على أرضِ تلك القاعة … تعالتِ الأصواتُ في تلفازهِ الصغير لأُناسٍ وسياسيين مُطالبين بمُلاحقة مَنْ دعمَ النظام وساندهُ حتى ولو بكلمةٍ واحدةٍ ؛ والأسماءُ تتوالى في الظهورِ في هذه القناةِ أو تلك ومن المطلوبين كذلك سعيدٌ الذي مَجَّدَ برسوماتهِ النَّظام السابق وكانَ أحدَ أقطابهِ ومِن المُؤثِّرين المُهمِّين .. ترقَّبَ هذه المُصيبة بتوتُّرٍ وحذرٍ ويديه ترتطمانِ ببعضِهما ندماً على تلْبية مَشُورة صديقه ، وإذا بنبرةٍ تحسَّستهُ أُذنيه لشخصٍ مسؤولٍ عن تتبُّعِ الأشخاص المطلوبين ؛ وإذا به صديقهُ فرحان مسؤول الأمسِ والمُمجَّد للنظام السابق هو نفسهُ المسؤولُ التنفيذيُّ لتصفيةِ زملائه ، وكأنَّ فلسفتهُ قد استدارتْ نحو مُبتغاها وهذا هو ديِدنُها ؛ وإنَّ سرعة تأقْلُمه مع الوضعِ الجديدِ سبَّب لسعيدٍ خوفاً كبيراً لأنَّهُ يعلمُ مكانَ عمله ومنزله كذلك .. إختبأ واغلقَ الستائِرَ البالية وأوصدَ بابهُ بقفلٍ مِن الخارج ليُوحي للآخرين بعدم وجوده .. إزدادتْ حَرارةُ أديم فِراشه هذه الليلة بسبب تقلُّبهِ وقلقهِ ممَّا سيؤول إليه الأمرُ ، ولكنَّ غفوةً صَغيرةً تطرحهُ نائماً حتَّى الصَّباح الذي تعالتْ فيه الهلاهِلُ والتصفيقُ .. صخَبٌ أيقظَهُ مِن نومهِ ولا يجرؤ على إزحةِ سِتار النافذةِ ليستعلمَ ما الخَطب ، هلاهِلٌ مُستمرةٌ ومتواصلةٌ وقرْقعةٌ قويَّةٌ تُحاكي بابهُ بعُنفٍ وهُم يصيحون بصوتٍ عالٍ أُخرج يا سعيد أُخرج يا سعيد نعلم أنَّك في المَنزل .. الصوتُ يزدادُ وهو يرتعِدُ مِن هولِ الموقفِ ؛ وهذه نهايةٌ غير مُتوقَّعة طالما راودتهُ وأراد تطبيقها في رُسوماته ؛ لكنَّ القدرَ سبقَ لحظة الفنِ ولوحتَهُ قد رَسمها غيره وما عليه سِوى القبول بها .. تقرَّبتِ الأصواتُ أكثر من بابهِ وراح يُميِّزُ بعضها ؛ إنَّه صوتُ جارنا الفاضل أُستاذ مادة التاريخ الذي يفيضُ خيراً على الجميع ولا أذيَّة تأتي منه أبداً ؛ تشجَّعَ وخرج وإذا بسياراتٍ مُظلَّلةٍ تُريد أخذهُ إلى تلك القاعةِ لإقامةِ المهرجان بعد ليلةٍ انتهتْ فيها آمالُ الإنقلابيين وزُجُّوا في السُّجون وأُلقي القبضُ على صديقهِ فرحان مُتنكراً بزيِّ رسامٍ بائِسٍ تناثرتْ على وجهِهِ الألوان ليُخفي صورته كما هي الحال في تلوُّن فِكره .
د. سامي شهاب الجبوري

الإدارة

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى