لا سبيل إلا المغادرة بقلم: الكاتب كروشي يونس
لا سبيل إلا المغادرة
لعل أبسط أمور العيش في زماننا هو التكيف ، والأوضاع الراهنة ذات التقاسم المرير ، فربما كانت هناك مآسي في كل الأمكنة وعلى جميع الأصعدة ، غير أن تلك الأضغان قد أضحت أحد أكثر الألفاظ تداولا بثغر الكثيرين.
فبعدما يصاب المرء بسم الدناءة والتعسف الجسدي ، تصبح كل المزايا القبيحة منبرا لتحقيق مغبة النهمة فلا جناح على أكثر الجسمان تضررا ، بلد هادئ وواسع الأفاق يطوي صفحات النهار بزخرفة سوداء طفيفة غير هالكة تأسر كل جوانبها ، وربما أكثر الأشياء الخلابة بما هي إلتزامات كل فرد بعمله وتنوع القطاعات فنذكر على سبيل المثال المهنة الزرقاء.
فهنا دكتور وهناك جراح وبجانبه طبيب للعيون وذات الشيء في المهن الأخرى ، تلك هي الجزائر حبيسة أنفاسي ووضيفتي بركن كرسي الإعتراف!، حملت بين طيات يومياتها العديد من الصدف التي جمعت الكثيرين لتلبية رغبات أقل ما يطلق عنها أنها نفسية وإنتهازية وغريزة بحتة ، لينجر عن ذلك إنسياب الإنتقام القابع على الشخوص البطولية ، فنادت أطراف روايتي صارخة ومتمنية حدوث المعجزة.
بزمن مضى حدثتني نفسي عن وقائع لأحداث متسلسلة تحكي أوجاعا تشرب من رحيق الشهوة والإنتقام فتولد أقوى ردود أفعال مستمعيها!، فطلب قلمي رفقة متني البيضاء بلملمة تلك المحادثة النفسية في صفحات متكررة كي يشهد عنها من يبحث عن العبر والحكم في سبك الديوان المحتكم.
كانت نفسيتي تحدثني وتقول على مضض:
عرف أنها ” الجزائر ” ، ترعرعت وكبرت بقارة سمراء يسودها الهدوء والرخاء المتلازمين ، من بطانة صغيرة ميسورة الحال والمعروف عن الأسر التي فيها هي الإبتسامة المفعمة بألياف من الطاقة والأمل ، فراحت ترسوا بمركب أحلامها إلى شط مروج المهنة الزرقاء.
فهي تمتاز بمساحة كبيرة وجميلة لا يظهر عليها إلا أنها تابعة لقارة سمراء إسمها “إفريقيا” سعت جاهدة لحمل مسؤولية جيرانها فمنذ عدة سنوات كانت مجدا للصحراء الغربية ، واليوم هي مجد ليبيا وتونس ، فلم تذهب معاناة سنوات من الإحتلال الفرنسي الذي صارعه الكبار والصغار من أجل التحرر والكسب عن طريق ما يسمى بالجهاد.
مرت سنوات منذ إستقلالها ، فهمها الوحيد كان التخلص من الجيش الغاشم ، والمثابرة من أجل بناء جزائر جديدة ، جزائر الشباب ، جزائر الحلم الضائع منذ أزل بعيد، ولكن سلسلة الحنين لا تزال تذكرنا بما فعله أبطالنا الأمجاد في المعارك الخالدة والدامية ، وهذا هو الشيء الوحيد الذي ترك الجزائر محبطة فكريا ، فبعدما أسس كل طرف منهم حبلا يشد به يده نحو الأفضل ، إستقبله الإحباط المعنوي ليكون تعيسا وسعيدا في نفس الوقت ، تعيسا لأنه لم يجد في بلد أرخى كاهله من أجل مستقبل أفضل أن يكون الأفضل، وسعيدا لأن بلده جميل رغم كل المفاسد التي يجدها ، ورغم كل الأذى الذي يتعرض له إلا أنه يبقى سعيدا ببلد يضرب به المثل في النظال والمناظلة.
في الجزائر لو أخذنا أي فنان أو رسام لأخذ الريشة ليتفنن في رسم خارطة شاب غادر الحياة متأثرا بفيروس “الغرق في زوارق الموت” ، كل يوم وكل أسبوع نسمع عن وفاة شباب لم يجدوا سيىوى البحر ليسمع دويهم بعدما ضاع مستقبلهم بشرف لا عمل في الجزائر سيوى المغادرة إلى بلد أوروبي أو أجنبي بصفة عامة ، فصبغ الريشة نحو المغادرة هي التي تجعل الجزائر محبطة ، ولو أخذنا شخصا آخر كلاعب في كرة القدم لإستدار مع الكرة نحو البحر الأبيض المتوسط ، فالجلد المدور قد يغير الزمن بأهدافه لا بضياعه.
في الجزائر يقال:إن كلما إقتربنا من الأجانب حفزتنا قلوبنا للعيش ، أما في الجزائر فنحن نعيش دون الحياة ، الحياة عادتا يرمز إليها بالميثاق ، فكم من شخص فارقته الحياة ولا نزال نذكره بداعي أوصافه، وكم من شخص غادر الحياة وهو يتنفس مستقبلا أفضل ، وكم من شخص ألزمته الحياة على البقاء رغم إتخاذه القرار بالمغادرة ، قد تنسب المغادرة إلى حمله لحلم ضاع وشرف لم يبقى إلا سطوره على الورقة تضيء بمشعل واحد “لا سبيل” ، فالصامت رسم وصبغ قلبه على الرحيل حتى قيل: إن القلوب مهلوعة بالدول الأوروبية كإسبانيا و إيطاليا ، دول جعلت أبنائها يحبون العيش في جنوبها وشمالها وفي شرقها وغربها ، فالأمر عندهم سواء.
في العرب يقال :إن الجزائر تمتاز برخوة العيش بسبب مناخها ، وفي الجزائر يقال: إن أزمة العيش تختنق كل من بداخلها حتى صار الإقتصاد لا يصنع شيئا في الوطن، الغلاء والرخاء أصبحا عند الشاب سواء ، لا فرق بينهم إلا المغادرة لأنه يعلم أن البلد لو يعيش فيه الدهر كله ، سيعيش وهو محبط الأنفاس ، تعيس لا يجبر الخاطر على الضحك والإبتسامة التي هي في وجه أخيك لك صدقة .
قد يعلم الشاب أن الجزائر رمز للوفاء ، وأنا الوفاء من جنس العمل ، لكن المغادرة إلى طريق مسدود هو الحل، وهو يحمل في قلبه “ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجرو فيها” نعم الهجرة إلى أرض الله هي الأصح ، فالهجرة جعلت البسمة والهجرة جعلت من النور ضياء، والهجرة من بلد الموت إلى بلد الحياة تشعل الأضواء.
في الأخير ، الجزائر بلد رائع ولكنه حلم ضائع لمن رأى نفسه أنه أسد وجعلته مناماته ذئب جائع ، أما لمن رأى نفسه ذئب جائع وهو يعيش أسدا ، فهذا لن تحركه الأمواج نحو المغادرة ولا إلى الهجرة التي يراها البعض أنها شرعية بهاجس الحياة قبل الموت.
الجزائر بلد يسعد القلوب، والشمس لا تغطى بالغربال ، وكيف نكره بلد بحجم الجزائر؟ ، الجزائر وردة زينتها الورود ، ولكن الأحلام مواقف لا تغيرها الأزهار بقدر ما يغيرها الهاجس ، فهاجس اليوم غادر نحو الموت لتعيش ، خير من أن تبقى حيا وأنت ميت.
بقلم: الكاتب كروشي يونس