الشعر والكهربا مقالة عيسى الشيخ على قصيدة عبدالسلام العبوسي في مدح صديقه طريف الهلوش
عن الشعر والكهربا أيضًا:
قرأت بالأمس قصيدة عبد السلام الجديدة، ولم أعلّق لأنّ كمّ الدهشة أبقاني هناك، وبرغم انشغالات رمضان، عدت إليها مرة أو مرّتين، وأظّن ظنًّا أن عبد السلام خطا خطوة جديدة في “كهربة القصيدة” لذعات خضراء تلسعنا في كلّ بيت تقريبًا، وتستعيد به تعليق الشاعر فرج الحسين: “ما الصنف الذي تتعاطاه” وأنا أظنّ أنّ عبد السلام من أكثر الشعراء المخلصين للقصيدة، وهو في دأبه هذا جدير بفتوحات شعرية جديدة.
.
يخصّ الشاعر صديقه “طريف الهلوش” بالنصّ، بمقدمة صادمة مدهشة، تستعير من شفاهياتنا، تعبيرين سائرين “أوّل وتالي” و “ملعونة الوالي” ومع تخفيف الحياة واستخدام “هذي” الفصيحة، ولكنه المتداولة شفاهيًّا، بدا البيت الأوّل مقدمة لقصيدة من الشعر الشعبي، وقلت في نفسي لعلّها مغامرة جديدة للشاعر يذهب فيها إلى تجربة جديدة فالقلق الأسلوبي ميزة الشعراء المبدعين.
.
بدأت مفردات أهلنا وتعبيراتهم تتسلّل بهدوء إلى نصوص أبنائهم، بعدما “شوّم” الشعر العربي الحديث في ميادين غريبة، ومنهم عبد السلام. إن توليفة “أوّل وتالي” في نصّ تبدو ممكنة، ولكنّ السرّ يكمن في خلطة الكيميا العجيبة، حين يبدو التعبير حجرًا “سنمّاريًّا” في بناء النصّ لا يمكن نزعه.
يثير تعبيرا “أوّل وتالي” و”هذي الحيا ملعونة الوالي” حنينًا في شريحة كبيرة من المتلقّين، وهم يستعيدون بها صور الأمس، في قرى الطين البعيدة، وكيف تنسلّ هذه الكلمات من أفواه “الشيّاب والعجايز”، وبهذا يقدّم الشاعر نفسه في البيت الأوّل عجوزًا يحدّث صاحبه وهما يدخّنان سكائر اللفّ.
.
ثمّ يغيّر النوّ، فتصهل خيل الفصاحة، وتشدو طيور المجاز: “أنحازُ لاسمكَ في أقصى سَحائبِهِ” ولكنّ لذعة الكهربا تأتي من تعبير “إذ كان يُروَى فَيَروِي ألفَ خَيَّالِ” وهنا يمدّ عبد السلام إلى الحنين بسبب، فيذكرنا بالآبار التي ترد عليها الماشية، قبل أن تهدم الحداثة جمال الآبار، وقبل أن تهدم الحرب كليهما.
إن تعبير “خيّال” و”خيّالة” يثير في النفس حنينان، حنين إلى الماضي، وحنين إلى “عزّة الماضي”. كان مشهد الخيّال مهيبًا وغامضًا وهو يجوز البراري، وها هنا في النصّ يمنحنا جمال الغموض، ولأن الخيّال مرتبط بالزرع والمراعي، فقد جاءت صورة “الحنطة والغربال” ولا أظنّ فيما قرأت أنّ أحدًا سبق عبد السلام إلى هذا القول: عزّة القمح في وقوفه في وجه الريح، وذلّه يوم يساق إلى أكياس الحبّ، والغربلة والطحن: “يا حِنطةً لم تُهَنْ يوماً بِغربالِ” وهذا التعبير يصلح أن يكون عنوانًا رائعًا لمجموعة شعرية.
.
جاءت قصيدة “النيولوك العمودي” إن صحّ الاصطلاح، لتخلّص الشعر التقليدي من ركونه في حقول النظم، وحفلت المغامرة بنجاحات مشهودة، ولكنّها ما زال أمامها تحدّيات كبيرة، منها وحدة البيت، لولع الشاعر بحشد الصور الجديدة في كلّ بيت، على حساب ترابط النصّ، ولكنّ المتأمّل في هذا النصّ يرى الارتباط المعنوي المتسلسل من الخيّال إلى الحنطة إلى الجمّال الذي سينقل الحبّ إلى المدينة:” يا بن البلادِ التي في كلِّ قافلةٍ* يسوقُ جَمَّالُها حزناً لجَمَّالِ”.
يحضر الجمّال في الذاكرة على أنّه حامل المعرفة والحزن، وحين يقول الشاعر “إن البلاد التي في كلّ قافلة” فإنه يكتب تاريخًا في خلاصة شعرية مؤثرة “يقود جمّالها حزنًا لجمّال”. وبمثل ما فتحت صورة الخيّال نبعًا من الصور، كذلك فعلت صورة الجمّال، طالبًا منه أن يستعيد الشام في أغنية مشهورة
“يا مال الشام يا الله يا مالي”.
.
يصل الشاعر التاريخ بالمحطة الأخيرة في البيت الذي يليه: “ما بين ذئبينِ” ولكنّه يمضي إلى أمل يصنعه الشعراء : “مازالَ احتمالُ يَدٍ* تُلوِّحُ الآن للناجين بالشَّالِ”
خيّال وجمّال في الذاكرة، وذئاب في الواقع، ولكنّ البلاد أنثى جميلة فاتنة، تستعين على الظرف الصعب بصور الغريب “المنقذ” في “غيمة البال” في انتظار ليس كانتظار غودو.
.
نصّ جميل ومدهش، ولصاحبه عندي “اللايك الذهبي” ودبشية في تمّوز.
.
تقبّل الله الطاعات.
________
نصّ القصيدة:
هل أنت أوَّلُهم أمْ ( أوَّلُ وْتالي )
لولاكَ هذي الحَيا ملعونةُ الوالي
أنحازُ لاسمكَ في أقصى سَحائبِهِ
إذ كان يُروَى فَيَروِي ألفَ خَيَّالِ
للدَّهرِ غربالُهُ مذ كنتَ من ذَهَبٍ
يا حِنطةً لم تُهَنْ يوماً بِغربالِ
يا بن البلادِ التي في كلِّ قافلةٍ
يسوقُ جَمَّالُها حزناً لجَمَّالِ
خذني إلى الشام إذ لا بدَّ تأخذني
وغَنِّ للشام لو غَنَّيتَ ( يا مالي )
ما بين ذئبينِ مازالَ احتمالُ يَدٍ
تُلوِّحُ الآن للناجين بالشَّالِ
تقولُ بِنْتٌ طَوَى العشرينَ نَرجسُها:
مازال رَهنَ احمرارِ الخَوخِ سِلسالي
تُطِلُّ في الليل من أبهى نوافذها
على الغريبِ الذي في غيمةِ البالِ
أعمى هو الحبُّ لولا أنَّ باصِرةً
مَدَّت إليه يداً من بابك العالي
- كأنَّما الخَلقُ كلُّ الخَلقِ قد وقفوا
لمَّا وقفتَ وحيداً فوقَ أطلالي