القصة

فقدان بقلم :” خولة البصري”⁦✍️⁩

فقــــدان
يوم شاق محمل بالثقل والأتربة، حاول جابر أن يزيح عن صدره وطأة الثقل كي يبدو طبيعيا أمام أبنائه الخمسة، نفث حسرة طويلة أحس أنها أزاحت شيئا من همه، جلبت له ولاء صينية الافطار بعد أن اجتهدت في محاولة إعدادها كما كانت تفعل أمها قبل أن ترحل عن البيت والدنيا معا تاركة لجابر خمسة أبناء ؛الكبير متزوج مع حفيد في الثانية من العمر ومراهقين وفتاتين إحداهما في السادسة عشرة وخاتمة العنقود ذات الخامسة. شعر جابر لأول مرة منذ أسس بيته قبل أكثر من عشرين عاما كأنه ضيف ثقيل فيه وأحس بحرج ابنته الشابة في أن تحل محل الزوجة الراحلة ومرت الأيام ثقيلة على جابر فلا العمل ينسيه فقدانه ولا حتى جلسة الأصدقاء.. وما إن يعود إلى الدار حتى يشعر بحاجتة إلى دفء ندى وألفتها وأصبح وقت النوم أكثر الأوقات بغضا إلى نفسه ففراشه بارد وقلبه مهجور وروحه تائهة وسيطر عليه إحساس بالانخلاع من جسده لدرجة أنه صار يقف أمام المرآة ليتأكد أنه كامل البنية لكن روحه من الداخل تخبره أنه نصف إنسان، وأن نصفه الآخر مخلوع منه وطفت على سطح هيئته دواخل أفكاره فلاحظ الأصدقاء والمقربون سوء ما وصل إليه حاله فالثياب المجعدة رغم عناية ولاء والسواد المحيط بالعينين وتهدل الكتفين وغياب الأريحية علامات بات يلاحظها كل من يراه حتى تكافت الجهود وحميت الهمة على دفعه إلى التفكير في إتخاذ زوجة تراعي شؤونه وتهتم باحتياجاته ،وكثرت آراء النساء المتأسفات لحاله والرجال المتألمين لوضعه، وبدأت المقترحات تأخذ جديتها واستأنس جابر بهالة الفرح التي أحيط بها وتذاكر الأسماء والأوصاف وبدأت سحابة الحزن القاتمة تتلاشى عن ملامحه شيئا فشيئا وزاد من تباشير الحياة التي بدأت تظهر على وجهه. اقتراح أبي سجاد صديقه وزميله في العمل بأن يزوجه من إبنة إبن عمه ذات الستة وعشرين عاما التي بالغ أبو سجاد في وصف محاسنها وقدرتها على إدارة شؤون دار أبيها رغم أن أبا سجاد لم يكن يزور إبن عمه هذا إلا نادرا، ولعله لم ير العروس منذ كانت بظفيرتين وبدأ جابر حملة الاهتمام الشكلي بعد أن أخبره أبو سجاد أن الجماعة موافقون على الخطبة وأنه قال لهم:
–أنا أضمنه فهو صديقي وخوش ولد
وأخذ جابر يستذكر العبارة وكأنه سيمتحن بها
-صديقي وخوش ولد
ثم حذف نصف العبارة واكتفى بعبارة
-خوش ولد
ثم أعاد حذف نصف العبارة ليستأنس بمفردة…. -ولد
وكانت الثلاثة أحرف هذه كفيلة بأن تخرج جابر من المنحنى المغلق الذي أحاط بحياته فصار يتخيل العروس التي سيبدأ معها بعد أن ظنّ أنه انتهى
و لم تكن عروسه دون الطموح لما تمتلك من عينين ضيقتين عسليتين وقواما ممتلئا غير بيًن القصر وشعرا بنيا ناعما ،وبشرة فتية وعادت الحياة إلى روح جابر كعودتها في تربة حديقة مهملة وكاد ينطبق عليه وصف السعيد لولا خواطر بغيضة كانت تنتابه وتؤرق راحته خاصة عندما يأوي إلى فراشه محتضنا جسد العروس اللدن ومتذكرا جسد ندى الذي يتخلل التراب مساماته فيحفره حفرا ،ويبدد معالمه فيتململ في فراشه ويضيق هواء غرفته ويترك الجسد المحموم لينفث أفكاره المؤرقة عبر لفافته معللا لعروسه أسبابا عدة تؤرق منامه ،وعدا ذلك مرت أيام و جابر هانئا بكل ما تجود به العروس حتى أخذ يبث روح المغامرة بالزواج الثاني بين رفقاء العمل مبينا أن مرور السنوات يُتعب النساء ويُنهك أرواحهن ويُعييهنً عن بث الحياة في أرواح الرجال
-الرجل مثل الأرض بحاجة دوما إلى السماد.
هكذا أصبحت آراءه التي جعلتهُ يأسف على تهوره في زواجه المبكر وإنجابه الأبناء والحفدة في حين أن من هم في مثل سنه لازالوا مستمتعين ببحبوحة الحرية حتى أنه رفض تسمية المولودة الجديدة لإبنه البكر بإسم جدتها الراحلة معللا رفضه بأنه يتألم عند سماع إسمها يتردد أمامه لكنه في الواقع كان يخشى مضايقة عروسه واستغرق جابر في دنياه ناسيا دنيا أبناءه، وماعاد يلاحظ تقاسيمهم وما يرتسم عليها من حاجة أو خوف أو بغض لأنه انشغل بتقاسيم العروس التي أخذت تحلو وتتورد يوما بعد يوم بل زاد ابتعادا وتوغلا في أجمة الأسرة الجديدة بعد أن أخبرته عروسه أنها ستنجب له إبنا سادسا بعد سبعة أشهر فتمنى جابر أن يكون هذا المولود هو مولوده الأول، وترك أمر رعاية أبنائه لأخيهم الأكبر حتى أرًق منامه ذات ليلة أنين الصغيرة مروة وضجة إخوتها وهم يحيطونها بالرعاية فأخذ جابر ينظر إلى إبنه البكر وهو يحمل شقيقته وكأنها إبنته فأخجلته هيبة رجولته ،ونظر إلى عيني الصغيرة ليجد ندى حاضرة فيهما وهي شابة في ربيعها الثامن عشر تصارع أعباء الحياة وتتنازل عن كل رغباتها لتتكون رغباته ،وتميت فتوتها لتحيا أحلامه ويكمل دراسته دون أن يكبد أبويه مزيدا من الأعباء، ورأى أيامه معها وهي تكافح بين أن تكون زوجة مشتهاة وإمرأة قنوع حين كان يطفو تارة على موجة حرب ويغطس أخرى تحت موجة حصار حتى تمكن بهمتها وصنائعها السبع أن يرسو على شاطئ آماله فعرف أن قلبه لن يسع امرأتين ولن يعدل بينهما حتى وإن كانت إحداهما تحت التراب، وحاول أن يلملم أبوته ليحتضن صغيرته ويغرقها بعطفه الأبوي، لكنها كانت قد اعتادت حضن أخيها فانسلت بين ذراعيه إلى كفي أخيها ونامت مطمئنة على كتفه
ملاحظة(لا يوجد زوجة أب بل يوجد أب لا يتقن الأبوًة)
خولــه البصــري

الإدارة

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى