أيها القوم، نحن آسفون بقلم وليد قبلي
وأنا راكب الحافلة صباح اليوم متجها نحو مكان ساقتني الظروف إلى إحداثياته، كنت محظوظا بجلوسي رفقة شخص في الأربعينيات من عمره هادئا ملتزما بتعليمات الوقاية من فيروس القرن 21 ، ما شد انتباهي لم يكن الرجل القاعد بجنبي ولا السائق المتهور الذي كأنه يسوق قطيع غنم يضربهم و يحول مسارهم يمينا يسارا ، ولا “الروسوفور” الذي ينظر إلينا كأننا عملة نقدية نادرة فيسارع إلى جمعها، بل الشيء الذي طرق باب عقلي وتسرب بين خلاياه موقظا إياه وكأنه يخاطبه فيقول له: “تمعن هذا المشهد الذي أمامك تمعن الفيلسوف لمشكلته، فلا تكن مثل القوم الذين هم حولك لأنك درست الإعلام ونظرتك للأشياء ليست كنظرتهم” ، هذا الحوار الذي دار بين المنظر الذي شاهدته و بين عقلي كان كالصافرة التي توقظ الجندي فجرا فتوجهه نحو معركة طاحنة أو تدريب قاس، حالتي تشبه حالة الجندي إلا أن الإختلاف يكمن في أن الأخير مستعد لمعركة أسلحتها بنادق ومدافع و أنا أسلحتي أفكار و نظرات.
أيها القارئ العزيز، بدون شك أنت تتساءل عن الشيء الذي رأيته فحرك وجداني وأخرج ما في عقلي من مكتسبات و عبر علقت في ذهني وحان وقت إخراجها واستعمالها في مواقف كهذه.
دعنا نعود لأجواء الحافلة المهترئة التي تشبه حمارا في آخر مطاف حياته يجر حملا أثقل منه فلا يكاد يسير، فبينما كنا جالسين مثنى مثنى وكأننا لسنا في زمن الكورونا، جالسين مع بعض على مقاعد انتهت مدة صلاحيتها، صعدت أم وطفلها الملتصق بجسدها التصاق الكنغر الصغير في جيب والدته، فارتاحت في مقعد ليس بالبعيد عني تتحدث مع رضيعها بلغة لا أفهمها ولا أعتقد بأن هناك شخصا في هذه المركبة اللعينة يفهم ما تقوله، كان يمسك قارورة ماء صغيرة الحجم يشرب منها شربة تبلل جسده أكثر مما تبلل ريقه وكأن بشرته السوداء أكثر ظمأ من بطنه كيف لا وهو لا يملك مكانا يقيه حر الصيف و وطأة الشمس.
فمنظر الرضيع المبلل و الأم الغير مكترثة جعل امرأة جالسة بقربهما تقدم لها منديلا لتمسح عنه ما سببته قارورة الماء، فصرخ الطفل باكيا مطالبا باسترجاع أغلى شيء يملكه، قارورة الماء، ولم يزل على هذه الحالة باكيا منددا مخرجا من أعماقه ألما غريزيا توارثه من أجداده الذين يعرفون معنى الشقاء والبؤس أشد المعرفة حتى تلقت يده اليمنى 5 دنانير أعطته إياها نفس المرأة الطيبة التي أمدته المنديل، فصمت صمتة المنقب عن الذهب عندما يجد كنزه.
فقلت في نفسي ربما هذا هو دواء الأفارقة الذين هاجروا إلى بلد غريب عنهم آملين في أن يجدوا ظروفا أفضل من تلك التي عاشوها فأصبحت أجسادهم و وجوههم مرآة عاكسة لما قاسوه من بؤس في دولهم التي لا تملك لا ماء ولا طعاما ولا ملاجئ لائقة لهم، لعلهم سئموا عيشة الترحال التي ميزتهم عن كثير من شعوب هذا الكوكب، جاؤوا ليجدوا مستقرا لهم، جاؤوا ليجدوا هدوءا وعيشة خالية من قسوة العيش وغضب الطبيعة.
بعد أن شغلت الرضيع قطعة النقود التي ظل يقلبها و يتفحصها تفحص السائغ لذهبه، فما هي إلا لحظة هدوء سريعة حتى عاد الطفل لبكائه من جديد، يبدو أنه لم يكتفي بالدنانير الخمسة التي بين يديه، لعله يطلب المزيد، فأعادت له أمه قارورة الماء لكن يبدو أنه لم يجد فيها ما يرضيه مثل ما كان سابقا، بدأت والدته في تحريكه بهدوء لعله ينام فلم يقتنع بما تفعله أمه مواصلا بكائه الشديد وسط تذمر الركاب، هنا ظهرت غريزة الأم وحنانها على طفلها فغطت صبيها بجلبابها القديم المكتسي لون التراب فتركت حال اللا إكتراث وبدأت ترضعه، فصمت الطفل صمتة ثانية لكن هذه المرة يبدو سعيدا بصمته راضيا بشربه حليب أمه وسط حنان لن يجده لو نفذ من السماوات و الأرض.
هذا الموقف مألوف لنا نحن البشر فإرضاع الأم لطفلها بعد بكائه ليس بالأمر العجيب ولا بالشيء المريب الذي يتركنا نتأمل و نلاحظ، لكنني وصلت إلى خلاصة من كل هذا، فالرضيع بصمته القصير بعد تلقفه للدنانير الخمسة و سكوته النهائي بعد إرضاع أمه له يبين لنا أن حنان الأم لا يشترى و صبرها على ولدها وتحمل بكائه لا حدود له رغم الموقف المحرج الذي وضعها فيه.
يجب على أمهات وآباء هذا القوم أن يعرفوا بأن أطفالهم ليسوا مجرد وسيلة تستعمل لجلب المال والتسول في الطرقات، بل يجب أن يتلقوا الحنان والعطف اللازمين في بادئ الأمر، لست أكتب هذه الكلمات لتقديم درس تربوي وإنما لتقديم رسالة استخلصها عقلي بعد تأمله لهذا المشهد، رسالة حنان أم، رسالة معاناة الأطفال الأفارقة من مشاكل وظروف لا أكاد أحصيها فجميعنا يعرفها، الأمر أكبر منا جميعنا ولا يسعنا فعل الكثير سوى تقديم المساعدات لهم والدعاء لهم لتيسير معيشتهم، فهم شعب مثلنا وبشر مثلنا.
أيها القوم، نحن آسفون..
لم أجد ما اقول سوى انك صحفي رائع ينتضرك مستقبل واعد ان شاء الله بتوفيق