إشراقات أدبيةقناة نحو الشروق

قراءة في قصيدة “لك وحدك “الشّاعرة الجزائرية “خديجة قادري” بقلم :”بولمدايس عبد المالك”

قراءة في قصيدة “لك وحدك “الشّاعرة الجزائرية خديجة قادري
الكاتب بولمدايس عبد المالك
الرحلة في أعماق الشعر الوجداني رحلة ممتعة لكنّها مليئة بالمفاجآت و خاصة إذا ملكت مفاتح شفراتها ملكة العواطف و المشاعر ..و لن تتربّع على ذلك العرش إلا أنثى كملكة سبأ بلقيس التي تفرّدت ببعد النظر و قوّة الحكمة وسداد الرأي و قسطا كبيرا من العدّة و العتاد ..فالأنثى هي ملكة الإحساس و ما الرجل في بحار عواطفها إلاّ سفينة عابرة تمخر بحرا لجيّا غاضبا.. و القصيدة محل الدراسة خرجت من تلك البوتقة المختبرية فرصدت لنا تجربتها بكل ما تحمله كلمة ” أنثى” من مفارقات و تناقضات و تقاطعات…
قصيدة “لك وحدك ” للشاعرة خديجة قادري زخّة من غيمة أنثى هربت من عمق وجدانها المحترق و على خصوصيتها أبت شاعرتنا إلاّ مشاركة مشاعرها الجيّاشة و العيش بين خبايا ذاكرة وجدانها .
“لك وحدك ” عنوان لا تنكشف أسراره إلاّ بارتياد صهوة جواده .
“وحدك” لفظ تكرّر ستّ مرات باحتساب العنوان ..وقد عمدت الشاعرة إلى التكرار لتحقيق ثلاثة أبعاد نفسية تتوزّع بين تأكيد و تنبيه و تخصيص..
تأكيد تقريريّ لقيمة المستهدف من الخطاب داخل النّص الشعري و تنبيه ضروريّ للقارئ على ضرورة العناية بالسرّ المنطوي بين خفايا هذا الحرص الشّديد من الشاعرة و تخصيص مميّز لأن ما تضمّه جوانح النفس لا يمكن للحروف و الكلمات و اللغة من إيفاء حقّه ..
و تقديم الجار و المجرور «لك وحدك ” لتبيان أهمية الشخص المقصود و هو أسلوب من أساليب اللغة العربيّة و يوجد الكثير منه3 في بطون الكتب و في القرآن عيّنة منها كقوله تعالى :”ربّ ابن لي عندك بيتا في الجنة ” قدّمت العندية “عندك” عن الجنة و نعيمها ..
و استعملت ضمير المخاطب المتصل للإشارة إليه للدلالة على أنّ موقعه بين جوانح القلب و سويدائه فذلك مقامه الحقيقي ثم أكّدت و خصّصت بـ”وحدك” لتبيان مكانته الجليلة في قلبها من جهة و فراغه من أيّ اسم أو حبيب محتمل من جهة ثانية و كأنّها تعكس حكاية أم موسى عليهما السلام في قوله تعالى “فأصبح فؤاد أم موسى فارغا” أي فارغا من كل شيء لامتلائه بابنها و انشغالها بحاله .
الشّاعرة توجّه رسالتها على سبيل الاختصاص و الإطلاق و تلفت انتباه المرسل إليه و القرّاء على اختلاف منابتهم و مستوياتهم من باب الاستئناس لا غير و إلاّ فهي له وحده لا يشاركه فيها أحد من العالمين فقصيدتها من الإخبار لا غير .و هذا الأسلوب المعتمد يعدّ من براعة الاستهلال و الإغراء إذ يدفع بالقارئ إلى محاولة فكّ شفرات رسالتها و التّوق لمعرفة هذا الفارس المشار إليه و معرفة ما يخفيه من أسرار و تشويقات .
نرى الشاعرة في هذا العنوان قد أتقنت فن التّواصل بربطها بين المرسل و المرسل إليه و الرسالة و ما يرتبط بهم من تغذية راجعة و قنوان و تشويش و خشخشات .. عرفنا مبدئيا المرسل و المتمثل في الشاعرة و علينا معرفة المرسل إليه و موضوع الرّسالة للوقوف على مخطّط الاتصال ” جاكوبسن” بعناصره المعروفة .
تخلو القصيدة من الّرموز الدينية و التّاريخية و الجغرافية و الحضارية فأنت أمام نص مفتوح على مصارعه تلمس فيه بحار من العواطف الجيّاشة الثائرة و صور وجدانية حافلة ثائرة و أشواق هوجاء كبركان يغلي ..يعجّ بالتشبيهات و الإيقاعات الموسيقية كالطباق و نحوه و ما يتركه من موسيقى داخلية ..و لكنّ في نهاية المطاف لا تهتدي للمرسل إليه و بذلك آثرت الشاعرة أن يبقى المرسل إليه غامضا مجهولا ..نشعر به في كل مقطع من مقاطعها و كأنّه حيّ بيننا و لكن من خلال الأخر أي المرسل في شكل اعترافات و أشواق و تشبيهات و كنايات ..و يبقى السّر محفوظا بين جوانح الشاعرة و فقط .و النتيجة قطع الأمل في الاهتداء إلى المرسل إليه ..
و هي رسالة أخرة واضحة من الشّاعرة تدعونا فيها للاهتمام بموضوع الرسالة و فحواها لحكمة ما تبقى متوارية وراء حُجب الغيب ..
فضّلت الشاعرة استعمال الكاف كضمير للمخاطب لتمرير رسالتها بقوّة و حسم للدلالة على قوّة حضور المخاطب أو المرسل إليه في وجدانها و في ذاكرتها بل و في كل نفس منها و حركة تصدر عنها و هذا يشبه إلى حد كبير العشق الصوفي ..عشق الحلاج “أنا هو و هو أنا ” ..و لعلّ أوّل مقطع في قصيدتها النثرية يؤكد ذلك و يثبته ؛ فنحن نرى بأنّا تبتدأ صباحها بالغوص فيما يليق بصباح معشوقها مستحضرة ربّما ما كان يستثير فكر محبوبها و انتباهه من وشوشة العصافير و هي تتناغم مع ترانيم النّايات الباكية الحانية لتستدرك بسرعة بأنّها ما نسيته طيلة الليل و ما فارقها طيفه و ما رحيل الليل و بداية صباح جديد إلاّ بساط آخر لمواصلة ذلك اللقاء بتغيير فقط في ديكور و تفاصيل لقاءنا من جديد…لكنّه بساط من طراز آخر و من عالم عجيب ، خيوطه عشبية نسجت من آخر شعاع من نور باق يليق بجمالك و مقامك .
المقطع الأوّل :
يليق بصباحك
وشوشة العصافير
وعزف النايات
ففي رحيل الظلام
على عشب آخرِ شعاعٍ ألتقيك
ما يلفت الانتباه تصديرها مقطوعتها بفعل مضارع ليفيد استمرارها في رصد تلك الصباحات مهما امتدّ بها العمر و استحضارها لتلك الصور و المشاهد التي كانت نستهوي محبوبها و تأنس تأملاته كرمزية لتجدد الوفاء و الثبات على عهود المحبّة إلى آخر نقس منها و هذا جمال آخر يفوق كلّ خيال .
المقطع الثاني :
و تستمر في توظيف الفعل المضارع لتستمرّ انكسارات حيرتها عند كلّ لقاء جديد هاربة إلى أحضان الخيال لترسم بريشتها السحرية و ألوانها القزحية لوحة تقريبية للحيرة اللاهية كأطفال أبرياء أو أحمال لاعبة على أبواب قلب من خشب و قد فقد كل معنى للحياة و الحب من بعد خصب و ريّ و اخضرار و ما خصبه و حياته إلا بوجودك و دفء أنفاسك و العكس صحيح.. و تشبيه القلب بالخشب كناية على موته و جفاف شجرته الباسقة في ربوع النفس.
و عزاؤها الوحيد في تلك الربوع القاحل آثارك هنا و هناك .. و تلح على تكرار”آثارك” للمرة الثالثة لتؤكد للقارئ بأنّ هذه الآثار هي أنفس ما ورثه عنه و تهرع لتبيان ذلك ..
ففي المرة الأولى تشبّه آثاره بخيل مسرجة مرسلة تستنفر فرسان الشّوق الخافت في زوايا مروج القصب الأصفر .. و وصفها للشوق بالخفوت دلالة على قطع الأمل في رجوع معشوقها الذي غاب أو غيّبه الموت ..و ربّما هذه هي الإشارة الوحيدة عن المأل الحقيقي له ..فمن المفروض أن يكون الشّوق محتدمة نيرانه لا تزيده الذكرى إلا توهجّا و لهيبا و لكن في حال شاعرتنا يتبدّى لنا الشوق في صورة مصباح يخفت أو سفينة تغرق أو أمل يخبو .. و في ظل هذا الشوق الخافت لا يسعها إلا عقد مناظرات جدلية للحيرة و أخواتها في تلك الأرض الجافة القصبية لعلمها بعدم حصول مرادها و تحصيل غرضها..
ألتقي اِنكسار الحيرة تلهو على باب قلب من خشب
هي آثارك
تسرج الشوق الخافت
وتجادل الحيرة في زاويا القصب
و أما في المرة الثانية فتصرّ على قيمة كنوز أثاره التي تحتفظ بها في خزائن ذاكرة وجدانها و بصيغة المخاطب الحاضر دوما و ارتيادها لصهوة جواد المستقبل و لم يبق أمامها إلا اللهو في بقايا الخطايا التي ترسّبت بعد رحيل و اختفاء محبوبها و هي كناية مستترة على تبدلّ حالها و بيئتها فكأنها ارتكبت خطيئة بل خطايا فعوقبت بحرمانها النهائي من محبوبها .. و نراها تبحث عن دواء نافع شاف لأثقال التعب التي ترزح فيها نفسيتها المعذبة و لن تهتدي إلى ذلك بل يعدّ ذلك ضربا من المستحيل كما عجز القدماء في اختراعهم لإكسير يجعل من المعادن البسيطة ذهبا حقيقيا ..و موضع الغرابة في تعبيرها بأنّ محبوبها قد ارتحل و لم يترك لها من آثار إلا بقايا خطايا و مثاقيل من تعب و هذه إشارة أخرى على قنوطها من رجوع معشوقها المحتذى به.
هي آثارك
تلهو في بقايا الخطايا
واكسير التعب
و في المرة الثالثة و الأخيرة و بصيغة المضارع أيضا ترفع الستار على نوع آخر من الآثار لتؤكد التصاق و تعلّق طيف محبوبها بأذيال ثيابها أنّى حلّت و أنّى ارتحلت لتشبّهه بعطر ساحرة اغتسلت بدموع السّحب كناية على طبيعة السحر المعمول و استحالة برئها و شفائها منه و هذا بعد جمالي عجيب يجمع بين عدّة متناقضات و مفارقات و مركبات أعجب من ثياب و عطر و سحر و دموع و سحب .. فعلاجها من تعلّق طيفها بنفسيتها من أمحل المستحيلات …
هي آثارك
تَعْلقُ بثيابي…
كعطر ساحرة
تغتَسّل بدموع السُحب
المقطع الثالث : في هذا المشهد الوجداني المشهود تلجأ الشاعرة بعد توصيف مفصّل لحالتها النّفسية إلى طرح تساؤلاتها هاربة تبحث عن إجابات شافية .. تأمل في استمالة غيمات حبلى لتمطر غيثا يعيد اخضرار خشبها المقعّر و بسمة قصبها المهرّبة …لا يسعها و الحالة تلك إلا أن تسترجع بعض قناعاتها و تعلنها على الملأ و الأشهاد …فنسيان محبوبها من المستحيل حصوله و ذكره خالد مخلّد بل إنّه ثابت من الثوابت التي لا تمحى و لا تتخلّف ، أوليس من العجب العجاب أن يحي إنسان مقطوع الشريان ..أن يدب جسم منزوع الرأس .. بل إنّ محبوبها لهو الشيء وخصّت الرّتابة و الصخب كمثال حيّ تاركة للقارئ إضافة ما يحلو له من تناقضات هي من طبيعة حياة المحبين عند الحل و الترحال ..و خلاصة اعترافاتها استحالة نسيان محبوبها .
لستُ أنساك
وأنت الشريان
النابض
أنت الحياة
أنت الرتابة والصّخب
بعد شحذ لهمّتها و إعادة إعلان لقناعاتها المبدئية التي لا يطالها التغيير و التبديل تكشف قليلا عن مدى ضخامة الحريق الذي شبّ في خشب و قصب وجدانها الملتهب ..و توظيفها للفعل المضارع للدلالة على استفحال الحريق و بلوغه إلى نقاط متقدّمة جدا في ربوع وجدانها المحترق ..و مما زاد الوضع سوء تلك التساؤلات التي تترى و لا تتوقّف صادف جيشا من التعب كان قد اقتحم حمى ذاكرتها و عاث فيها فسادا و خرابا حتّى ضجّت الرّوح بالأسئلة الحائرة و كانت وقودا مستعرة إضافية …
يتسع الحريق
تطلق خلفي
ألف سؤال…
وسؤال
و جيشاً من العتب
أضجّ بأسئلتك
و في ظلّ هذه الاحتراقات و التساؤلات يتحرّك الحنين و تهيج العاطفة نحوك و تلتفت الذاكرة إلى الوراء بحركة دائرية لتخبره عن حالها و تطلعه عن مدى وفاءها له و حبّها الأسطوري لتعلن له:
أستدير ..لأطلعك
لكَ وحدكِ و وحدك
ترف اجاباتي
الناعمة
وفرو الشغب..
و كأنها إجابة مودّع يائس تمثّلت في صورة ملاك مجنّح حاملا بين جوانحه إجابات حاسمة لكنها ناعمة مرهفة رهافة حسّها المحترق و حنانها الجيّاش لإعلان حقيقة ما يختلجها من إجابات و اعترافات …فقد انتهى زمن الشغب و قد بلغ الحريق نقطة اللارجوع و أشرفت الحياة على نهايتها .
المقطع الرابع : بعد وابل تساؤلاتها و مدّ و جزر تعلن الشاعرة عن قراراتها الحاسمة و تعلنها صيحة مدويّة في آذان الزمان و الإنسان و الوجود بعالميه المشهود و الغيبي ..تتعمّد من حين إلى حين من تكرار هذا المقطع القصير” لك وحدك و وحدك يكون “… و لكن تدخل عنصرا جديد إضافيا ” يكون” لتعلن قرارها الأخير الذي لا رجعة فيه .
جملة قرارات نجملها في : الولاء ..الوفاء ..الحبّ ..التستر ..الصلاة .. خماسية تعلنها في شكل قرارات نافذة غير قابلة للاستئناف أو النقض .
و بلغة الأنثى و الضعف و الاستسلام لأمر محبوبها تتحفنا بصيّب من الصور الوجدانية الروحية فنراها مرّة في صورة مريم و قد تجلببت و تسترت و تارة في صورة زكرياء و هو يتعبدّ في المحراب ..و ثالثة نراها و قد تقمصت دور طفلة جميلة القسمات و الضحكات ..و كلّ آمالها أن لا يلفها ذلك الصمت من جديد الذي خلفه دويّ الرصاص فأضحى نحيب الريح صمتها الأزلي ..
لك وحدك و وحدك يكون
الولاء ..
يكون الوفاء
يكون الحب
يكون …ما لم تنجبت السحب…
لك وحدك أتلحف
عباءة الشوق
أصلي حافية القلب
في محراب الساعات
‏ أطرز دفاتري كطفلة بجميل الضحكات
كي لا يحبل الصمت
برصاص الكلمات!.
كي لا تنطفئ
لوعاتنا
و تردّ الريح بالنحيب والبكاء
في الفلوات .
هذه القصيدة النثرية تطبيق عملي لنظريات الحداثة و مثال بارز و حيّ في الالتزام بشروطها و مدخلاتها و مخرجاتها ..فنجد التوصيف أولا ثم الانتقال إلى طرح التساؤلات لتختم بإصدار أحكام و مقررات و بذلك يمكن اعتماد هذه القصيدة و القراءة في مقررات الطلبة التعليمية كأنموذج عمليّ لتلك النظريات الحداثية .

الإدارة

صحيفة جزائرية إلكترونية ورقية أدبية فنية ثقافية شاملة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى