بين الرجاء و التمنّي في قصيدة ” نفح الأمنيات” للشاعرة اللبنانية “جميلة مزرعاني” بقلم: “بولمدايس عبد المالك”
بين الرجاء و التمنّي في قصيدة ” نفح الأمنيات” للشاعرة اللبنانية جميلة مزرعاني
الكاتب بولمدايس عبد المالك
التمنّي عموما طلب نفسي يُراد به تحقيق شيء محبوب؛ لكنه من الصعب تحقّقه في الواقع وقد يموت الشّخص وتبقى أمنياته عالقة بعد أن دُفنت معه وللأبد.. فهل طبيعة أحلام شاعرتنا من هذا القبيل أم أنّ للأمنيات في مفهومها معنى آخر؟
اختارت الشاعرة ” نفح الأمنيات” كعنوان فارق لقصيدتها و في هذا نوع من التخفيف النفسي من شّدة النيران المحتدمة في وجدانها المشتعل.. هذا ما يدلّ عليه لفظ ” نفح ” و النّفح عكس اللفح ..فاللفح لكل حار كالنار و النفح لكل بارد كالهواء العليل و هذا مؤشر قويّ لسعيها الحثيث لاستجلاب نفحات الهواء العليل المنعش الذي قد يغيّر من مزاجها النّفسيّ المضطرب و يبرد شيئا من لفح نيران وجدانها الملتهب .
ـ العنوان : نفح الأمنيات
من على صهوة صيغة الأمر تستفتح قائمة طلباتها المعلّقة و المهرّبة متمنيّة أن يتحقق طلبها البسيط ولو في شكل طيف خيالي عابر لفضاءات خاطرها المؤرق و الخَاطِرُ كلّ ما يَخْطِرُ بالقلب من أمر أو رأي و أملها الكبير يكمن في إمكانية عبور أمنياتها عبره و لو لزمن قصير جدا .. و التعبير بالأمنيات بدل المفرد “أمنية ” إشارة على تمكنّ اليأس منها و تغلغله في نفسها فالمسكينة من شدة خيباتها و انكساراتها المتعددة لم تحظى و لو بتحقق أمنية واحدة من مجموع أمنياتها العالقة الهاربة .
و طلبها هذا ممكن التحقيق من النّاحية العقلية عكس تحققها وجودا و لكن من شدّة تكرر خيباتها أصبح هذا الطلب غير ممكن عقلا أي في صورة خيال و هذا ما يؤكد أكثر خيبة الأمل الكبيرة التي ألمت بها و أحاطت بها من كل صوب و حدب ..و هذه الصورة النفسية المتخيّلة و إن كانت مبالغ فيها و ممكنة التحقق عقلا انعكاس مثبط للحركة و الهمة و النشاط .. و هذا النوع من المبالغات هو شكل من أشكال التوحدّ و الانعزال و اليأس و رمي المنشفة .. و لا يخفى على العاقل الحصيف ما في كلمة العبور من معنى كالنّجاة و الأمان و تحقيق الأحلام و التخفيف من أثقال الضغوط و الكوابيس و كلّ هذه المعاني و أكثر من الإيحاءات تندرج صطمن مجال العبور .
1. المقطع الأول :
اعبري خاطري لمحة ..
لثوانٍ أو للحظات ..
و قد اختارت في كم مقطع من مقاطع قصيدتها حرف ” التاء ” المفتوحة كرويّ للدلالة على أنّ طلبها يبقى مفتوحا على كلّ الاحتمالات ..(للحظات ، كربات، مسرّات ،النهدات ، الآهات، الملهمّات) .و هذا نوع من أنواع التّبرير كخدعة نفسية ليس إلاّ ..
تشرع الشاعرة في تصوير حالتها النّفسية التي آلت إليها راجية من الأمنيات أن تستجيب لطلباتها و تحنّ لحالتها المزرية فتجود عليها بأقباس أو نفخ لروح جديدة متجددة أو بشائر أخبار تشنّف مسمعها و تهدأ من روع تنهداتها المتسارعة المتواصلة …
الخريف غزا أضلعي ..
يسكب الشحوب كربات ..
أسرجي طيفك قبسًا من شعلة ..
ينفح في صدر الرّجايا مسرّات ..
أو راودي مسمعي هنيهة ..
غُنّة طير في الهوى ..
يُطرب زقّة النّهدات ..
2. المقطع الثاني :
غُطِّي فوق أزهري كفراشة ..
بشراها يُسكن الآهات ..
وعلى ربى الخيال ميلي هفوة ..
نسمة تلقّحُ المنى آمال ..
واترعي بعض خمرك كأسًا ..
أرتشف نهيلك ..
نورًا يسري في المدلهمّات ..
و لو قمنا بعملية إحصائية تجميعية للألفاظ بتوزيعها بين مجالي الرجاء و التمني الذين يقابلهما الأمل و اليأس لوضعنا إصبعنا على موضع الجرح و لترجّح لنا اتجاه نفسيتها الغالب..
· المقطع الأول:
الرجاء : اسرجي، القبس،الشعلة،الرجايا، المسرات ،غنة طير= 06
اليأس : الخريف، الغزو،الشحوب،كربات، زفّة ، النهدات = 06
· المقطع الثاني:
الرجاء: أزهري ،فراشة، بشراها ،الخمر، نهيلك ، نور، يسري، نسمة، تلقيح ، المنى، الآمال=11
اليأس : غطى ، الآهات، هفوة ، المدلهمّات =04
و الملاحظة الكبرى التي لا غبار عليها أنّ مساحة الرجاء و الأمل في نفسية الشاعرة أكبر بكثير من مساحة اليأس و القنوط (17 مقابل 10 ) و هذا ما يقتضيه السياق بالنظر إلى عنوان القصيدة من جهة و سعة مساحة الرجاء و الأمل من جهة ثانية ..
و لو قمنا ثانية بإحصاء زمن الأفعال الموظفة لتحصلنا على :
· فعل الأمر: اعبري ؛ اسرجي؛ راودي ؛ اترعي =04
· الفعل المضارع: يسكب؛ ينفخ؛ يطرب ؛ يسكن ؛ أرتشف ، يسري=06
· الفعل الماضي: غزا ؛ غطي=02
و بالنظر إلى هذه النتائج يلفت انتباهنا للمرّة الثانية غلبة مجال الرجاء و الأمل على مجال اليأس و القنوط حيث أنها تضع الماضي وراء ظهرها و لا تلتفت إليه إلا لمما بينما تركّز اهتمامها الكلّي على الحاضر و المستقبل لأنهما الأهم في نظرها و هذا من سعة أفقها و بعد نظرتها ، و تغليب إيجابيتها ..و هذا ملمح نفسي فاصل و فاعل و مؤثر في قادم الإيام .
تأثرها بألفاظ القرآن الكريم نراه جليّا رأي العين “راودي” قال تعالى :”فراودته التي هو في بيتها عن نفسه” ؛ ” اترعي” قال الله تعالى : “أرسله معنا غدا يلعب و يرتع ” من سورة يوسف.
أسلوب الشاعرة المعتمد في قصيدتها سهل ممتنع و الألفاظ المختارة في خوض غمار مقاطعها الشعرية هي من الوضوح و الجلاء ما يغني من تسليط الأضواء عليها لأنّها سًرج مضيئة ملتهبة من ذاتها منيرة لها وغيرها عتمات الدروب مما أغنى عن الخوض في شرح ألفاظ القصيدة و الظفر بمعانيها ؛ فالسياق العام للقصيدة يغني عن اللجوء إلى اعتماد ظاهرة الخيال و ركوب ظاهرة الانزياح و الإكثار من الصور البيانية و البلاغية إذ أنّ بلوغ رسالتها للقارئ أهم عندها من كل جمالية و ترميز و تشفير مع أنّ القصيدة لم تخل منها على وجه العموم .. و أخير و ليس بآخر فالشاعرة تملك معجما لغويا ثريا و لغة سليمة راقية و أسلوبا خاصا و مميّزا في مداعبتها لأوتار الدال و الملول..
الجزائر في 01.02.2021
بولمدايس عبد المالك